عبد الاله بلقزيز
حين اندلعت أحداث ما سُمي ب"الثورات العربية"، في نهاية العام 2010 ومطلع العام ،2011 وكان ذلك بعد عام واحد على إهدار "المشروع النهضوي العربي"، الذي كان لنا شرف تحرير نصه التركيبي النهائي المعتمد، كتبنا في مقدمة الطبعة الثانية لنص المشروع – الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية – أن مادة المشروع "صيغت على نحو تحققت فيه علاقات الترابط والمنظومية بين مطالب وأهداف نهضوية قامت الفرقة والشقاق بينها في الماضي الفكري والسياسي العربي المعاصر"، وأن "الذين شاركوا في وضع المشروع – بحوثاً ومناقشات وصياغة – هم أنفسهم من شاركوا في عملية التغيير الثوري، أو قل – للدقة – ممن ينتسبون إلى القوى والتيارات التي كان لها شرف المشاركة في عملية التغيير تلك . وإذا كان في وُسع الرؤية الجدلية – المنظومية – لأهداف النهضة والتقدم أن ترفع من منسوب الوعي العربي بتداخل قضايا وتحديات المستقبل والمصير، وأن تحرر ذلك الوعي من التجزيئية والاختزالية المبسطة، فإن في وسع حقيقة الشراكة في وضع المشروع بين القوى الحية في الأمة أن يقدم طمأنة للجميع بأنه ليس مشروع فئة أو فريق أو تيار، وإنما هو مشروع الأمة برمتها" .
وأضافت مقدمة الطبعة الثانية مشددة على أنه "مثلما وضع مركز دراسات الوحدة العربية نص المشروع النهضوي العربي تحت تصرف من قد يستفيد منه في حقبة ما قبل الثورة، حيث كان يبدو لكثيرين طوباوياً، يضعه من جديد تحت تصرف من قد يستفيد منه في حقبة الثورة، أي بعد أن بات في حكم اليقين أنه أشد واقعية مما يُظن" . وليس من شك في أن المقدمة تلك إنما عَنَتْ بعبارة "من قد يستفيد منه في حقبة الثورة" أولئك الذين اعتبرتهم في جملة "الذين شاركوا في وضع المشروع" و"شاركوا في عملية التغيير الثوري" . وهؤلاء – في تعيين المشروع النهضوي العربي – هم المنتسبون إلى التيارات الأربعة الأساس: القومي، والإسلامي، واليساري، والليبرالي .
اليوم، بعد ما يزيد على ثلاث سنوات من اندلاع "الثورات" العربية، وبعد عامين ونصف على كتابة مقدمة الطبعة الثانية، بما اكتنهته من آمال عظام، ثم بعد عامين ويزيد على حكم الإسلاميين والعلمانيين في مصر وتونس، وعلى النزاع الأهلي الشديد في ليبيا، والحرب الأهلية الأشد في سوريا، يطرح السؤال مجدداً عما إذا كان هذا المشروع النهضوي العربي مازال مناسباً ليكون مشروعاً رؤيوياً للتقدم، وبرنامجاً سياسياً- استراتيجياً للعمل المشترك، مثلما يطرح السؤال عن الأسباب التي حالت دون أن يصير مرشد عمل لقوى التغيير كافة بعد أن آلت إليها مقاليد إدارة سلطة الدولة بعد "الثورة" .
فأما السؤال الأول، عن مدى مناسبة نص المشروع ورؤيته لهدف التغيير، فيجيب عنه واقع أنه لا مشروع بديلاً منه تفرضه المتغيرات الأخيرة، أو تنجبه القوى السياسية والثقافية التي تصدرت المشهد السياسي العربي في الأعوام الثلاثة الأخيرة، فإلى أن هذه القوى لم تفعل – في واقع الأمر – سوى أنها أعادت إنتاج مشاريعها الإيديولوجية – السياسية المغلقة، السابقة وجوداً وزمناً للمشروع النهضوي، وأقفلت على نفسها، بذلك، داخل أسوارها وحصونها ويقينياتها، فإن المشروع النهضوي العربي تغذى – أكثر – بشواهد تبرر شرعيته وتسوغها من الواقع الجديد الذي أنتجته "الثورات" . وأكثر ما برره أن إقامة نظام اجتماعي – سياسي جديد، في البلاد العربية اليوم، لا يمكنه أن يحصل – على النحو المناسب والمطابق – إلا متى توافرت لذلك شروط منها اثنان رئيسيان .
أولهما، رؤية سياسية متكاملة لبناء مستقبل ديمقراطي تلحظ الروابط والعلائق بين المسألة الوطنية (والقومية) والمسألة الاجتماعية (التنمية والعدالة الاجتماعية) والمسألة الديمقراطية، وتبلورها في منظومة واحدة، وهذه الرؤية يوفرها – فيما نزعم – نص المشروع النهضوي الذي ما زادت تجربة السنوات الثلاث الأخيرة إلا تأكيداً للحاجة الماسة إليه . ولقد ثبت أن استغراق "قوى الثورة" في هاجس واحد (هو الديمقراطية)، واطّراحها جانباً مسائل العدالة الاجتماعية والأمن القومي والتنمية المستقلة، مثّل انتكاسة كبيرة، وتراجعاً خطراً من تلك القوى عن نص المشروع النهضوي، ورؤيته الترابطية لتلازم الأهداف .
وثانيهما، إن إقامة مثل ذلك النظام الاجتماعي – السياسي المنشود يمتنع على أي فريق واحد منفرد، ويحتاج – بالتالي – إلى تأليف حلف عريض من القوى التي يفترض أنها تلتقي على الهدف الديمقراطي النهضوي عينه، التي ينبغي لها أن تكون ذلك الحامل السياسي والاجتماعي للمشروع/الرؤية .
وأما السؤال الثاني، عن الأسباب التي حالت دون العمل بمقتضيات المشروع خلال فترة "الثورة"، فسؤال يفترض تحليل أداء القوى التي تصدّت لإدارة السلطة، خلال المرحلة الانتقالية، أو التي قادت عملية محاولة إسقاط الأنظمة ولم تنجح في ذلك حتى الآن، وهي – جميعها – القوى التي يفترض أنها في جملة حملة المشروع النهضوي .
وعلينا، هنا، أن نعترف بمنتهى الصراحة أن ذلك الأداء كان، ولايزال، سيئاً من القوى كافة (الإسلامية والعلمانية)، وأنه أفصح عن مقدار عال من التنكر للمبادئ الحاكمة للمشروع النهضوي، وأولها مبدأ التوافق: الذي قامت كتابة نص المشروع عليه! فلقد تصرف الجميع بعيداً عن فكرة التوافق، وكانت الكلمة لمبدأ الغلبة والاستبعاد والإقصاء والتفرد، وجرّ ذلك على الجميع نتائج في غاية السلبية والسوء، بل هو فوّت على الجميع فرصة بناء انتقال توافقي ناجح يفتح الباب أمام التغيير والبناء الديمقراطي .
كانت المعارضات العربية (الإسلامية والقومية والليبرالية واليسارية)، التي أدارت هذه المرحلة الانتقالية، أو أدارت عملية التغيير في بعض الأقطار العربية، دون مستوى هذا المشروع النهضوي الذي كُتب نصه من أجلها، بل شاركت هي نفسها في وضعه . لقد تجاهلته كاستراتيجية عمل، أثناء قيادتها السلطة أو قيادتها الصراع مع أنظمتها، مثلما تجاهلته قبل ذلك في إعلامها، فيما أوغلت في السير في الطرق الضيقة للتفرد واحتكار القرار . وهي، بذلك، لم تسدد ضربة لهذا المشروع، بازورارها عنه، وإنما سددت ضربة لنفسها ولتجربة في العمل المشترك أضاعتها . وهكذا لم يكن المشروع النهضوي (هو) المسؤول عن غياب فعله وأثره في هذه المرحلة، وإنما كانت قواهُ من حكم عليه بالتغييب والتعطيل .