يوسف مكي
حين بدأ موسم الحركات الاحتجاجية العربية، إثر حادثة البوعزيزي في تونس، لم يتوقع أكثر الناس معرفة بأوضاع المنطقة، أننا على أبواب إعصار شامل، لا يبقي ولا يذر . انتشر هذا الإعصار بسرعة خطفت الأبصار، إلى عموم تونس، ثم مصر وليبيا واليمن وسوريا، والقائمة طويلة . وقد أدت سرعة انهيار ثلاثة أنظمة سياسية، واحتمالات انهيار أنظمة عربية أخرى، إلى وصف الإعلام الغربي لموسم الحركات الاحتجاجية بالربيع العربي . وكان التوصيف يحمل معنى تشابه ما يجري في منطقتنا بالتحولات التي شهدتها أوروبا الشرقية بعد سقوط حائط برلين، حيث انهارت جميع الدول الاشتراكية في وقت متقارب، بشكل أذهل العالم أجمع . وقد وصف الغرب تلك التحولات، بربيع أوروبا الشرقية .
ورغم الفوارق الكبيرة بين ما جرى في أوروبا الشرقية، في بداية التسعينات من القرن المنصرم، من تحولات وما جرى من أعاصير بالوطن العربي، خلال السنتين الماضيتين، فإن تعبير الربيع ظل وصفاً شائعاً ومعمولاً به في وسائل الإعلام بالحالتين .
ولعل المشترك بين ربيع أوروبا، والربيع العربي، هو أن كليهما يأتيان في بداية مرحلة انتقال من نظام دولي إلى آخر . فسقوط أوروبا الشرقية، وتحولها من أنظمة شمولية، تلتزم في المنهج الاشتراكي، إلى أنظمة تتبنى سياسة الأسواق المفتوحة والنموذج الغربي في الحكم، كان إيذاناً بانتهاء التعددية القطبية، وهيمنة الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الدولية . وبالمثل، فإن “الربيع العربي”، يأتي متزامناً مع بروز قوى دولية جديدة، على رأسها روسيا والصين، وتمثلها مجموعة ال”بريكس” .
نقطة الاختلاف بين الربيعين، أن الأول موجه ضد أنظمة سياسية معادية للغرب . فقد كانت دول أوروبا الشرقية، في الكتلة الحليفة للاتحاد السوفييتي، وترتبط معه بحلف عسكري، هو حلف وارسو، وتحتمي بمظلته النووية . أما الدول التي شملها الربيع العربي، فبعضها حتى لحظة سقوطها موالية للغرب .
وفي هذا السياق، يجدر التذكير بأن الشعارات التي رفعها الشباب اليافعون، في الميادين الرئيسة، في المدن التي طالتها الحركة الاحتجاجية، كانت شعارات الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة، بمعنى أنها حملت دعوات للتحول من قيم الأنظمة الشمولية للقيم الغربية، وإجراء إصلاحات سياسية، تتسق مع تحولات العصر، لكن ذلك لا ينفي أن الأمور دائماً تقيم بخواتيمها .
وبديهي أن يتعاطف المرء مع هذه المطالب والشعارات المشروعة، رغم أن ما كشفت عنه الحوادث اللاحقة، قد أعادنا لقوانين التحول الاجتماعي التي تفترض وجود شروط خاصة، بنيوية واقتصادية، لأي تحول اجتماعي حقيقي . فليس يكفي أن يتجمع الناس بأعداد كبيرة في الميادين، يرفعون اللافتات، فيؤدي حراكهم إلى سقوط المسؤول الأول في الحكم، لكي يتحقق التحول، من النظام الشمولي إلى الربيع الواعد .
أما حين تكون نتائج هذا الحراك تفتيت الكيانات الوطنية، ونشر الفوضى، وغياب الأمن والاستقرار، فإن ذلك أخطر بكثير ويستدعي موقفاً آخر من الحراك . إن استعادة مكانة الإنسان والارتقاء بها، والتأكيد على المواطنة، وسيادة دولة القانون، يفترض اتجاه بوصلة التحولات إلى الأعلى، وليس في اتجاه ناكس، يغوص في التاريخ السحيق، ويغيّب قيم المدنية والحضارة .
ولا جدال في أن عوامل موضوعية وداخلية، أسهمت في الانفجار الذي مرت به البلدان العربية، أدت إلى تعميم حالة الاحتقان . لكن ذلك لا ينفي وجود أيادٍ خارجية أسهمت فيه، مستغلة حالة الغضب . يتأكد ذلك، إذا ما تابعنا التطور السياسي في البلدان العربية، في العقود القليلة الماضية . لقد شكل استهداف الأمة، هدفاً في الاستراتيجيات المعلنة للدول الكبرى . وقد مكنتها الثغرات المتراكمة في مجتمعاتنا العربية من تحقيق أهدافها .
ومن جهة أخرى، خلق عالم القرية الإلكترونية الصغيرة . . العالم المتشابك، وثورة الإعلام والمعلومات، حقائق جديدة، أهمها، بلوغ الشفافية مرحلة غير مسبوقة، فقد جرت تعرية سياسات الجميع، بالداخل والخارج . وكشفت بوضوح كذب الغرب وزيف ديمقراطيته . فهذا الغرب، غير المعني، بتطوير مجتمعاتنا، يسهم عن عمد في حرف مسارات التنمية المستقلة لبلدان العالم الثالث، ولا يتردد عن إيقاظ الغلو والتطرف بجميع أشكاله، ومد يد العون له، بما يخدم مشاريعه التفتيتية في منطقتنا .
لقد كان المؤمل، أن تسهم التحولات الأخيرة، في تحرير المواطن العربي من الخوف، فيصبح قوة مؤثرة في مسار الأحداث، لكن حرف الحركة الشبابية عن توجهاتها الأصلية وأهدافها النبيلة، أدى إلى نتائج كارثية . وليس من شك، في أن حالة التجريف السياسي التي شهدتها في العقود الأخيرة، معظم بلدان “الربيع العربي”، قد أدت إلى اختطاف ثمار الحراك السياسي، والقفز إلى السلطة، من قبل قوى سياسية، لم يكن دورها أساسياً في الحراك، في لحظة انطلاقة .
المؤمل أن تكشف الحقبة القادمة عن بعض إيجابيات هذا الحراك . فالتغيير نحو الأفضل، قادم لا محالة، تفرضه قوانين التاريخ، التي تؤكد أن الإنسان يسير بثبات إلى الأمام، وعوامل موضوعية أخرى، تأخذ مواقعها في سياق تاريخي صحيح . لقد أدركت دول المنطقة حتمية مشاركة مواطنيها في صناعة القرار، وأضحى مطلب قيام دولة القانون، مسلمة رئيسة ضمن قائمة مطالب الإصلاح السياسي بالبلدان العربية .
ووجود أمتنا العربية هو حقيقة موضوعية أكدتها التطورات الأخيرة . فقد أكدت الأحداث وجود لغة مشتركة، وهموم واحدة وتحديات واحدة وآمال واحدة أيضاً . وقد استثمر الجيل الجديد التقنيات العلمية الجديدة ووسائل الاتصال الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي، ليحقق أهدافه . لقد بتنا أكثر قرباً من بعضنا بعضاً، وأكثر معرفة بهمومنا وتحدياتنا . التأثير والتفكير المشترك .
علينا أن نثق بالأمة وبمواريثها الدينية والحضارية . إن القراءة المعمقة للتاريخ تكشف أن هذه الأمة واجهت تحديات جساماً، وأنها في كل مرة، تستلهم من إرثها ومخزونها الحضاري محفزات للنهوض، فهي كطائر الفينيق تذروه الرياح، ثم ينبثق مجدداً محلقاً بجناحيه . وهذه الأمة، مهما زلت بها المقادير، ستنهض مجدداً، وتواصل دورها الإنساني، ولن تكون التدخلات الخارجية، ومن أي مصدر سوى محطات عابرة، ما كان لها أن تأخذ مكانها، لولا إخفاقاتنا في التنمية وهشاشة مكوناتنا البنيوية، وضعف هياكلنا الاجتماعية، وجميعها ليست عناصر أصيلة في التاريخ، بل حالات محرضة على الفعل، ومن ركامها يبزغ الفرح، كما من رحم الألم يولد الأمل .