تضمنت مقالة الأخ العزيز غسان الشهابي التي نشرت في جريدة الوقت يوم الثاني من يناير الجاري تحت عنوان: "ماذا فعلت بنا يا صدام؟" جملة من الأحكام والنعوت القاسية والظالمة في حق الرئيس الشهيد صدام حسين، حيث حملته مسئولية ما آلت إليه الساحة العربية من تصدع وانهيار للأمن القومي العربي، في ابتسار لا يليق بكاتب مهني مثل الأخ غسان الذي نحترمه ونحترم قلمه.
وبادئ ذي بدء إذ نحترم حق الأخ غسان في الرأي، وحقنا كذلك في إبداء الرأي المخالف، فشخصية تاريخية من طراز الرئيس الشهيد وتأثيراتها في مجمل الساحة العربية بل العالمية تجعل من حق الجميع إبداء الرأي، ودائما ما تكون الشخصيات التاريخية والعظيمة محل اختلاف بين مؤيد ومعارض وحاقد ومحب، كيف لا والشخصية محل الحديث شغل العالم أجمع منذ أكثر من أربعين عاماً ومازال؟ لقد بذلت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية جل طاقاتها من أجل شيطنة صدام حسين وتشويه صورته، وتشكيل الرأي العام العالمي وتحشيده للتصفيق لاحتلال العراق والتبشير بالديمقراطية الموعودة، ويشير بعض الدراسات الأمريكية إلى أن أجهزة الإعلام الأمريكية خصصت 412 ساعة يوميا من أجل تشويه صورة الرئيس الشهيد والقيادة الوطنية في العراق.
ولعل من نافلة القول إن الدكتاتوريات في المنطقة العربية تحظى بدعم ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية مادامت خانعة ومرتهنة ومسلوبة الإرادة وتنفذ الأوامر الصادرة عن أجهزة المخابرات الأمريكية وأصغر مسئول في الإدارة الأمريكية يمكن أن يأمر أكبر مسئول في الدكتاتوريات العربية، بل ان نماذج الديمقراطية التي برزت في المنطقة وبرعاية أمريكية هي تلك التي لا يمكن أن تكون بحال خيارا للشعب، بل هي تلك التي تبقي خيرات الأمة وقراراتها مرتهنة للإدارة الأمريكية.
لقد لخص الرفيق طارق عزيز فك الله أسره خلاصة ثورة تموز بأنها تنطلق من عنوان الحزب الذي قام بها وهو "البعث" أي النهضة من جديد، وهذا هو جوهر المعركة الذي خاضها العراق وواجهتها ثورة تموز "النهضة": تحقيق المستوى اللائق للأمة العربية من التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتقني بالقرار الوطني المستقل وبما يناسب مكانتها الحقيقية في التاريخ الانساني والمجتمع.
كان الشهيد صدام يقول دائما: "إن أفضل ما يمكن تحقيقه في حالة النكوص عن المبادئ هو أن نصبح نظاما قد يوجد فيه بعض الميزات النسبية على نظم أخرى.. ومرة أخرى نسأل: هل بوسع النظام أن يحل مشاكل الأمة؟ وهل هذا هو طريق البعث ومبتغاه؟ وهل يتفق هذا مع ما آمنا به من مبادئ وغايات؟".
علينا أن نرفض المرفوض مع كل المغريات التي تبدو ظاهرة فيه، وفي مقدمتها راحة الحكام، أي راحة أنفسنا على الطريق التقليدي لما يعتبره حكام اليوم فى الوطن العربي أنه راحة لهم، وتوفير التضحية، وان نتحمل بدلا من ذلك عبء الجهاد مع كل ما ينطوي عليه من تضحيات جسام.
إن توجيه التهم جزافا بأن العراق وقائده صدام حسين شنا حربا ضد إيران فيه الكثير من اختزال التاريخ والتعدي على الحقائق التاريخية التي تقول بما لا يدع مجالا للشك ان العراق في ذلك الوقت قد حمى حدوده وآخر المشروع الإيراني للهيمنة على العراق الذي يتم اليوم تحت مرأى ومسمع الدول العربية التي تقف عاجزة عن الفعل بعد أن سلمت قرارها للإدارة الأمريكية، متناسيا من يدعي ذلك أن العراق قد وافق على قرار وقف إطلاق النار الذي أصدره مجلس الأمن الذي صدر بعد أسبوع من بدء المواجهة، وأن الحرب استمرت ثماني سنوات بعد تعنت إيران ورفضها وقف إطلاق النار أملا في تحقيق انتصار وانهيار بوابة العرب الشرقية المستباحة اليوم.
سخر الإعلام الموجه جهوداً كبيرة لتشويه صورة عراق تموز، وشيطنة قيادته، لتغييب صورة المشروع النهضوي الذي حملته ثورة تموز، بعد أن تجاوز الخطوط الحمر، عبر بناء الاستقلال الناجز والإصرار على تعزيز موقف جميع القوى المقاومة للإمبريالية، وفي هذه العجالة نعرض ومضات سريعة عن مشروع النهضة في عراق تموز والبعث الذي كان قائده الشهيد صدام حسين:
تأميم نفط العراق
اكتفى عبدالكريم قاسم عام 1958 بتحديد مناطق استثمار الشركات الأجنبية للنفط ولكن ثورة تموز، بدأت في عام 1971 معركة تأميم النفط، وشارك فيها كل أبناء شعب العراق، حتى انتصار قرار التأميم عام 1972 وقيام صناعة عراقية 100% من الاستخراج والتكرير والتصدير.
تنمية انفجارية:
بما توفر من موارد هائلة من النفط بعد التأميم، فقد بدأت خطة تنموية انفجارية في السبعينيات، ركزت في امتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا وبناء بنية تحتية كبرى، وقاعدة صناعية ضخمة.
خطة التنمية الانفجارية 1976-1980 التي حاولت نقل العراق إلى مصاف الدول المتقدمة وأسهمت بدور كبير في تدعيم جوانب الاقتصاد العراقي وإرساء البنية الأساسية الارتكازية للاقتصاد وتطوير الخدمات العامة والاجتماعية التي كانت ستتبعها خطة عملاقة أخرى 1981 – 1985 فكانت الحرب العراقية – الإيرانية.
تنمية بشرية أقلقت الأعداء:
بدأت التنمية البشرية بخطة زمنية لمحو الأمية التي كانت نسبتها عالية جدا في العراق حتى استطاع العراق وبشهادة اليونسكو محو الأمية في فترة زمنية قياسية.
كذلك التنمية الصحية والقضاء على الأمراض وخفض وفيات الأطفال من نسب مسجلة في منظمة الصحة العالمية وبما أذهل الأعداء، كيف تم تحقيق تلك النسب القياسية؟
إن كل ذلك كان أسس بناء مشروع النهضة الذي اتبعته ثورة تموز ببناء البشر الذين يمتلكون ناصية العلم والتقنية ويطوعون ما استعسر على العراق ليكون متقدما في عالم العلم والتكنولوجيا، أكثر من 40 ألف عالم وخبير في مجالات الهندسة والتقنية والكمبيوتر والفيزياء والذرة. لذلك كان المطلوب سحق هذا التوجه مهما كلف الأمر، فكانت لجان التفتيش في التسعينيات تبحث عن العلماء والمهندسين وتطلب قوائم بأسمائهم وعناوينهم حتى تصل اليهم بالترهيب أو الترغيب، وكان ما جن له جنون العدو صعوبة الاختراق.
بناء الجيش العقَدي:
جيش عقَدي يستلهم فكر البعث والروح القومية الأصيلة، تربية قومية مؤسسة على أن نصر العرب واستقلالهم لا يمكن أن يتحققا إلا بإزالة الكيان المسخ من أرض فلسطين، إمكانات متطورة خطرة. عندما وصلت صواريخ إيران لتقصف بغداد رفضت روسيا بيع العراق أي صواريخ بعيدة المدى، فكانت صواريخ الحسين والعباس وبابل التي طورت بسواعد وعقول أبناء العراق واستطاعت أن تدك طهران واستطاعت أن ترغمهم على إنهاء الحرب.
البرنامج النووي العراقي:
بدأ التخطيط للبرنامج النووي العراقي للأغراض السلمية، وكان المسؤول عن البرنامج الشهيد صدام حسين ومنذ عام 1976 بدأ العمل حثيثا في هذا المشروع، وقد بدأت الحملات الإعلامية الصهيونية ضد المشروع منذ عام 1979، وارتكب عملاء الموساد أولى جرائمهم البشعة بحق العاملين بالبرنامج النووي العراقي حين اقتحموا غرفة المهندس النووي المصري الدكتور يحيى المشد في باريس في يونيو 1980، في 7 أغسطس 1980 أربع قنابل: اثنتان منها في مقر شركة سنياتكنت الإيطالية في روما وثالثة في دار مدير فرع الشركة في ميلانو بإيطاليا والرابعة في بيت خبير فرنسي متخصص بالمفاعلات النووية في باريس فأصابته وزوجته بجروح بليغة، وفي 13 ديسمبر من عام 1980 اغتالوا في باريس المهندس المدني الاستشاري العراقي الأستاذ عبدالرحمن رسول، وفي 9 يونيو من عام 1981 توفي الفيزيائي العراقي الدكتور سلمان رشيد سلمان اللامي في جنيف في ظروف غامضة، وفي يونيو من العام نفسه كان العدوان الصهيوني وتدمير مفاعل تموز، كيف مر واخترق الأجواء العربية؟ ذلك السؤال الذي ينبغي اجابته ممن يدعون أن الشهيد صدام هو من فلق الأمة العربية.
في سبتمبر اتخذت القيادة العراقية قرارا بالبدء ببرنامج نووي سري، قال الشهيد صدام للمسؤولين عن البرنامج النووي: "لابدّ لنا من أن نبني بسواعد وعقول العراقيين برنامجا نوويا بديلا، ولابدّ من امتلاكنا السلاح النووي ليكون رادعاً لاعتداءات إسرائيل واعتداءات من يحمي دولة إسرائيل ويقدم لها الدعم والإسناد المتواصلين"، ثم ختم حديثه بالقول: "علينا أن نعمل منذ اليوم لامتلاك ناصية التكنولوجيا النووية".
القضية الكردية:
بعد أقل من عامين في 11 مارس 1970 أصدرت قيادة ثورة تموز البعثية بيان آذار "مارس" لتأمين الحقوق القومية والثقافية لأبناء شعبنا الكردي وتمتعهم وأول مرة في تاريخ العراق الحديث بل في المنطقة كلها بالحكم الذاتي.
فكان الحكم الذاتي يشمل مشاركة الكرد في الحكومة حيث كان نائب رئيس الجمهورية بالإضافة إلى المناصب الوزارية، كما أطلقت الإذاعات باللغة الكردية والصحف والمجلات ودور النشر باللغة الكردية.
كما كان تعليم اللغة الكردية اجباريا حتى في الجامعات ويتذكر الطلبة البحرينيون الذين درسوا في الجامعات في السليمانية وأربيل أنهم درسوا في السنة الأولى اللغة الكردية كمتطلب أساسي للنجاح، في وقت كان يسام فيه الكرد الظلم والجور في البلدان المجاورة للعراق.
فلسطين:
ثورة تموز انطلاقا من فكرها القومي الذي يستند إلى أن فلسطين هي القضية المركزية في النضال العربي، وأن فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين كما يقول القائد المؤسس الراحل ميشيل عفلق، وبالتالي فقد كانت القضية الفلسطينية محورا أساسيا في التوجه القومي للعراق في عهد ثورة تموز، لذلك كان العراق العمق الاستراتيجي لدول المواجهة، ولم يتردد في إرسال جيشه في حرب 73، ثم وقوفه بحزم ضد سياسات السادات واتفاقات كامب ديفيد ومحاولته بناء جبهة عربية لمواجهة محاولات التطبيع مع الكيان الغاصب، وصولا إلى دعم المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح، وإيصالها بشتى الطرائق إلى أبناء الانتفاضة وعائلات شهدائها.
وكانت فلسطين دائما في قلب الشهيد صدام حسين حتى آخر كلمات نطقها وهو ينعى نفسه، ولو كان صدام والقيادة الوطنية في العراق فالقا للأمة على أكثر من صعيد كما يتخيل الأخ غسان لحظي برعاية الولايات المتحدة الأمريكية واستمر في الحكم كما هو حال حكام الواقع الراهن في الوطن العربي الذين ينفذون الأوامر الأمريكية بتصفية القضية الفلسطينية وزيادة التصدع بين أبناء الأمة.
إن العراق في عهد ثورة تموز قد تجاوز الخطوط الحمراء، لذا كان الاستهداف من شاه إيران إلى الملا مصطفى إلى الحرب العراقية الإيرانية لاستنزاف العراق، ثم حرب 1991 التي قال بيكر قبلها للرفيق طارق عزيز: "سنعيدكم إلى العصر ما قبل الصناعي" فكان أن صبت على العراق عام 1991م قنابل وحجم قدرها البنتاجون بـ 141 ألف طن، وطلعات جوية كانت بمعدل 2800 غارة جوية كل يوم خلال حرب 1991م.
وبعد تلك الحرب فوجئ العالم بحجم الصمود العراقي وإعادة الإعمار بجهود عراقية ذاتية، على الرغم من الحصار المدمر فكان لابد من الاحتلال.
المقاومة العراقية:
إن العراق العصي على التركيع، المتسلح بالإيمان والصبر على ضيم الأقربين والمصر على البناء بالقدرات الذاتية والمتحدي بالمضي في مشروع البعث (مشروع النهضة)، هو الذي لم يترك للمؤامرة وللإمبريالية من مناص إلا الاحتلال العسكري المباشر وتدمير العراق واحتلال أرضه ورهن خيراته يرتع فيها المحتل، بعد أن عجز التابعون عن إنهاك وشل إرادة النهضة وإعادة البناء فيه، وكان ذلك في تقدير صدام واضحا جليا، لذلك بدأ الشهيد صدام الإعداد للمقاومة العراقية منذ سنوات قبل الاحتلال، لذلك انطلقت المقاومة منذ اليوم الأول للاحتلال فحين نقلت الفضائيات مسرحية ساحة الفردوس وسط بغداد، كانت مناطق بغداد تغلي بمواجهات مع قوات الاحتلال، عتمت عليها القوات الأمريكية في ذلك اليوم لكنها لم تستطع ذلك بعد أن تصاعدت عملياتها بتسارع كبير.
لقد عطلت المقاومة مشروع الشرق الأوسط الكبير، وأربكت حسابات الإدارة الأمريكية التي ظنت أن شعب العراق سيستقبلها بالورد، وعطلت توسع المشروع إلى سوريا..
اليوم المقاومة في العراق هي وريثة ثورات تموز ونجاح المقاومة في طرد الاحتلال وبناء حكم وطني في العراق سيكون له تداعيات استراتيجية على عموم المنطقة بل على توجهات العالم نحو بناء نظام عالمي جديد، وإن ما خلفه الرئيس الشهيد صدام حسين وحزبه هو القيم التي تحمي العراق حاليا من الدخول في أتون الحرب الطائفية التي يخطط لها، وهو الذي يتجدد اليوم في عموم الأرض العربية، ولم تذروه الرياح كما قلت، فذلك حلم الامريكان ومن جاء معهم من العملاء والطائفيين ومن أسسوا هيئة اجتثاث البعث أملا في تحقيق هذا الحلم، فإذا بالبعث ينهض في مختلف بقاع العراق والوطن العربي الكبير.
إن الباحث المنصف حينما يدرس ما مر به العراق من ظروف صعبة وما تعرض له من ويلات وما قدمه شعبه من تضحيات لابد أن يدرس جملة المعطيات والظروف الدولية والاقليمية التي حكمت الوضع، وأن نكون موضوعيين في تقييم ما مارسه الأخ والجار والقريب من العراق حتى يسهل سبل العدوان عليه ولا يترك في القوس ثمة منزع، حتى تكتمل دائرة الحصار والتنكيل بالعراق وقيادته، ثم عندما رأت الإدارة الأمريكية كيف أدارت القيادة العراقية البلاد في أقسى الظروف، وجدت الإدارة الأمريكية أنه لا يمكن المضي بالمشروع الأمريكي إلى مداه إلا باحتلال العراق احتلالا مباشرا بعد أن أعيتهم كل المؤامرات والحصار والتدمير.
كان صدام وفيا لمبادئه، جسورا تقدم إلى منصة الشهادة بقلب الواثق المطمئن مردداً الشهادتين، في الوقت الذي اتشح قاتلوه بالسواد رفض أن يغطي وجهه فكان مصداقاً لرجال عهد البطولة الذي قال عنهم ميشيل عفلق:
صفحة الذين يجابهون المعضلات العامة ببرودة العقل ولهيب الإيمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعا، ويسيرون في الحياة عراة النفوس، هؤلاء هم الذين يفتتحون عهد البطولة.
صدام حسين هو الذي يتذكره أبناء العراق الطيبون الأصلاء وهم يرددون مع شاعرهم المبدع عبدالرزاق عبدالواحد الذي قال في الشهيد في ذكرى استشهاده:
مَن يَنتَخي بِكَ عازِفاً عن كل مَن
يُنْمَى إليكَ، لأن سَـهْمَكَ أسْــرَعُ؟
وَلأن نَخْوَتَكَ العَظيمَةَ صَوتُـــها
أعلى، وَسَيفَكَ في الشدائِدِ أقطَعُ
مِلْءَ الحَياتَينِ انفَرَدتَ عن الوَرى
في أنكَ الفَلَكُ الأعَـــز الأرفـعُ
وَبِأنكَ الألَقُ الذي لا يَنطَفـــي
وَبِـأنْكَ الأرَقُ الذي لا يَهجَـــــعُ
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.