الكاتب د. محمد صالح الهرماسي
تمر هذه الأيام الذكرى التاسعة والأربعون لعدوان حزيران، العدوان الذي يطلق الخطاب الصهيوني عليه مصطلح "حرب الأيام الستة"، وهناك من يطلق عليه: "هزيمة الـ 1967" أو "نكسة حزيران"، وفيه احتل العدو الصهيوني القدس كاملة، والجولان وقطاع غزة والضفة الغربية وسيناء، الأمر الذي شكّل منعطفاً عسكرياً وسياسياً وفكرياً وإيديولوجياً في تاريخ الكيان الصهيوني.
يتناول الكثير من الكتّاب والمفكرين سنوياً هذه الذكرى الأليمة في كتاباتهم، فمنهم من يرى العدوان هزيمة ليست على المستوى العسكري فحسب، وإنما على مستوى المشروع العربي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، ويستمرون في تعزيز الإحباط لدى المواطن العربي منذ نحو نصف قرن من الزمان، وكأنهم يريدون التأسيس للهزائم واستمرارها وتكريسها.. ومنهم من يرى في العدوان وذكراه مناسبة للمراجعة والاستفادة من دروس العدوان والتأسيس للانتصار لا الهزيمة!.
صحيح أن هناك سلسلة من الهزائم والانكسارات العربية التي تتناسل وتتوالد منذ اغتصاب فلسطين عام 1948 وعدوان حزيران عام 1967 في التاريخ المعاصر على الأقل، مثل غزو لبنان واحتلال العراق واقتتال العرب فيما بينهم اليوم، وتطوّر أساليب العدوان لتتّخذ أشكالاً جديدة عبر الإرهاب وتصدير المجموعات الإرهابية لتفتك بالأقطار العربية قطراً تلو الآخر، لكن لم تؤسس هذه الهزائم للتراجع أو الإحباط، بل أسهمت في التأسيس لانتصارات عديدة، إذ لم يمكّن هذا العدوان الكيان الصهيوني من حمل العرب على الاعتراف به والإقرار بوجوده، فكانت حرب تشرين التحريرية التي شكّلت أنموذجاً للتضامن العربي ومسيرة المقاومة والتحرير حتى إزالة هذا العدوان، وتبعه انتصار المقاومة في لبنان وتحرير معظم أراضي الجنوب اللبناني عام 2000، ثم انتصار المقاومة الوطنية اللبنانية على العدوان الإسرائيلي باعتراف قادته عام 2006، وانتصار المقاومة الفلسطينية الذي أفشل العدوان الصهيوني على غزة نهاية عام 2008 ومطلع العام 2009.
إن المطلوب اليوم، وبعد مرور 49 عاماً على عدوان حزيران، أن تشكل ذكراه مناسبة للدعوة إلى تأسيس وعي عربي سياسي ناقد، بعيداً عن ردود الأفعال، وعي عربي يؤسس لفكر نقدي يعرّي الأنظمة العربية الحاكمة وتسلّطها، تلك الأنظمة التي تتآمر على شعبها وتسعى على الدوام إلى إعادة إنتاج الهزيمة، وإطالة ليلها، وبث الفتنة والانقسام والاقتتال في الصف العربي، حتى تبقى بعيدة عن أجندة الشعب العربي ومشروعه في تحقيق الديمقراطية ونيل الحرية وتحرير الأراضي العربية المحتلة وصولاً إلى الاستقلال.
إن المطلوب اليوم، إعادة القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح، وجعلها أولوية في الصراع العربي الصهيوني، فالمطلوب إعادة إحياء "لاءات الخرطوم" الثلاثة بإصرار والتمسك بالثوابت: "لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض" مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه، المطلوب وقف التفاوض مع قادة الكيان الصهيوني الغاصب، ووقف التطبيع معه، لطالما أن الاتفاقات الاستسلامية المنفردة لم تجدِ نفعاً، ولم تحقق عودة الأرض لأصحابها، ولم توقف العدوان وممارسات سلطات الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل إلا من إرادته في الصمود والمقاومة وتحقيق الانتصار.
إن المطلوب اليوم، استثمار الانتصارات التي تحقّقها المقاومة والانتفاضات الفلسطينية الرائعة في مواجهة العدو الصهيوني وممارساته، وتحويلها إلى انتصارات استراتيجية، واستبدال شعار "إزالة آثار العدوان" بشعار آخر عنوانه: "المقاومة والتحرير والعودة"، وعدم التهويل في بث الرعب والخوف من "إسرائيل" وقدراتها النووية والعسكرية، لأن ذلك يثبّت العجز عن المواجهة وتقديم مزيد من التنازلات..
المطلوب اليوم، وحدة الصف الفلسطيني أولاً، ووحدة الصف العربي ثانياً، والتلاحم الوطني للشعب العربي في كل الأرجاء حول القضية الفلسطينية، لأن هذه الخطوات ستقطع الطريق على العدو الصهيوني الرافض أساساً للسلام، والذي يسعى على الدوام إلى تشجيع محور عربي ضد آخر، مستغلاً الخلافات العربية ـــ العربية، ويراهن على ما يسمى "الربيع العربي"، لإحداث شروخ بين العرب، ومواصلة تنفيذ مشروعه الإحلالي الاستيطاني الاستعماري..
المطلوب اليوم، الاستفادة من دروس العدوان لابتداع أساليب خلّاقة في استعادة كافة أساليب الكفاح على طريق تحرير الأرض والإنسان، والثقة بإرادة الشعب العربي وصموده، فالإرادة والصمود هما الحافز للأمة العربية والإسلامية ولكل الشعوب التي تطمح إلى الحرية من الاستغلال والاستعمار وتسلّط الأنظمة الفاسدة، وفيهما الأمل والهدف نحو الحرية والاستقلال والعودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف على أرض فلسطين.