«الدوار سبب فصلي من العمل»، عبارة تحمل قضية اجتماعية وواقعاً مُراً قالها العشرات من العمال هنا في البحرين، رددتها حناجرهم بغصة، وحملتها قلوبهم وَهْناً، حتى بدتْ عقول بعضهم لم تـُصدق هذا الواقع، بينما وجدنا مدارك البعض الآخر منهم لم تستوعبه، لأنه ثقيلٌ تنوء به المدارك وواقع غريب غير مألوف كما يقولون.
هذا الواقع قد يكون مبنياً على تصور وفهم خاطئ حسبما يرى البعض، بينما أخذه الآخرون على صحته بالتواتر، بدليل ما سمعوا عن استبسال المحققين في لجان التحقيق في التحري عن معرفة ما إذا كان العمال المحالون أمامهم للتحقيق قد ذهبوا إلى الدوار أم لا، كمادة أساسية مطلوبٌ منهم البحث فيها والتحري عنها بداية، وبدليل أن الإخطارات الصادرة إلى هؤلاء العمال تحمل بالدرجة الأولى تهمة الذهاب إلى الدوار.
والمقصود بالدوار هو دوار «اللؤلؤة» الذي احتشد فيه جَمعٌ من أفراد الشعب بمختلف طوائفهم واتجاهاتهم إبان الأحداث السياسية ما بين 14 فبراير / شباط حتى 15 مارس / آذار 2011..
وحيث تواترت الأنباء بصحة وقائع فصل العمال بسبب ذهابهم إلى الدوار واعتصامهم فيه. وحيث ان هذه الوقائع تـُمثل قضية اجتماعية وإنسانية وتتصل بالقواعد القانونية والأحكام الشرعية. ولكي نعرف مدى قانونيتها وشرعيتها، رأينا من المناسب أن نستبين آراء الناس حولها (أولاً)، ثم عرضها على قانون العمل وقانون الخدمة المدنية (ثانياً)، ثم نستشهد (ثالثاً) بشاهدين هما الدوار نفسه والقرن الواحد والعشرون باعتبارهما يمثلان ظرفي المكان والزمان، وأخيراً نحاور بشأنها نبي الله ورسوله محمد ابن عبد الله «ص».
فلنتسمع ماذا قال هذا وذاك بشأن هذه القضية.
أولاً: لو استفيتنا الناس فقد يتبين لنا أن الآراء متباينة، فهناك طائفة رأت قانونية الفصل بقولها: «إن الاعتصام في الدوار (أو في أي مكان) من دون ترخيص فعل يشكل جريمة جنائية يُعاقب عليه جنائياً لأنه يهدد الأمن والسلم الاجتماعي ويقوِّض أركان النظام»، بل ذهبت فئة أخرى من جنس هذه الطائفة إلى أبعد من ذلك؛ معتبرة هذا الفعل يمثل خيانة للوطن عقوبتها الشنق، ولهذا علقوا المشانق ورفعوا السيوف.
وفي المقابل ترى فئة أخرى أن الاعتصام حقٌ كفله الدستور شأنه شأن جميع الحقوق السياسية وأقرته جميع المواثيق والاتفاقيات الدولية كوجه من وجوه الديمقراطية. وخير دليل على ذلك (كما يقولون) هو ما حملته مضامين ميثاق العمل الوطني ودستور البحرين، حيث جاء فيهما: «فقد استقر الرأي على أن يؤخذ بالثوابت الوطنية والسياسية والدستورية في هوية الدولة تأكيداً على النظام الملكي الوراثي الدستوري الديمقراطي». «وأن لكل مواطن حق التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بأي طريقة أخرى من طرق التعبير عن الرأي».
وبين هذه الفئة وتلك هناك فئة ثالثة تؤمن بحق حرية الرأي وتنادي بها، وبحرية التعبير لمن يشاء وبأية طريقة يشاء، ولكن بشرط ألاَّ نَحمِلَ هذه الحرية مقلوبة، ولا أن نجعلها ملتحداً للتطرّف وإساءة النظام أو المَّس بأي رمز من رموز البلاد حاكماً أو محكوماً… وهو رأي نرى فيه المنطق الحق ومنتهى الحكمة والصواب.
ثانياً: بعد مراجعة قانون العمل، قال لنا هذا القانون: أنا القانون الخاص، أنا لوحدي أنظم العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال في القطاع الأهلي، أحكم بالآتي:
(1) لا يجوز فصل العامل من دون إخطار أو تعويض إلا إذا حُكم عليه نهائياً في جناية أو في جنحة ماسة بالشَّرَف أو الأمانة أو الآداب العامة. (أنظر المادة 113/7).
(2) لا يجوز معاقبة العامل لأمر ارتكبه خارج مكان العمل (أنظر المادة 102/4).
أما قانون الخدمة المدنية، فقال لنا: أنا القانون الخاص يَخْضعُ تحت حُكمي الموظفون والعمال العموميون ومستخدمو الحكومة الخاضعون لأنظمة الخدمة المدنية… أنا أقضي بما قضى به قانون العمل وأحكم بالآتي: «تنتهي خدمة الموظف إذا حكم عليه حكماً نهائياً بعقوبة جناية أو بعقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة». (أنظر المادة 25/و).
وبناء على أحكام قانوني العمل والخدمة المدنية، نستنتج ما يلي:
(1) بما أن الاعتصام غير المُصرَّح به لا يعتبر «جناية» إنما هو «جنحة». وبما أن هذه الجنحة هي بالطبع لا تمُس الشَّرَف والأمانة والآداب العامة. فلا يجوز – وفقاً للحكمين السابقين – جعل الاعتصام مبرراً لفصل العامل، سواء كان هذا الاعتصام مصرحاً به أو غير مصرح به، حتى وإن صدر حكم بإدانته، لأن «جنحة الاعتصام» كما قلنا لا تدخل ضمن جنحة الشرف والأمانة والآداب العامة التي اعتبرها قانون العمل وقانون الخدمة المدنية مبرراً للفصل، فضلاً عن أن هذا الفعل كان خارج دائرة العمل وفي غير وقت العمل لا يجوز جعله مبرراً للفصل.
(2) حتى وإنْ افترضنا جدلاً أن الاعتصام غير المصرَّح به يعتبر جناية، فلا يجوز فصل العامل بسببها إلا إذا صدر ضده حكم بإدانته وبعد أن يُصبح هذا الحكم نهائياً، فإن تقرر فصله قبل ذلك يصبح فصله قائماً على غير أساس من القانون.
ثالثاً: عندما استشهدنا بشاهدين هما الدوار نفسه والقرن الواحد والعشرون شهدا بالآتي:
شهادة الدوار: «أقسم بالله العظيم أني تشرَّفت بحضور جميع فئات الشعب سنة وشيعة، بحريني وغير بحريني، فقير وغني، ومنهم بعض الوزراء وذوي الرتب والشخصيات العالية بمختلف انتماءاتهم السياسية والدينية والعقائدية والفكرية، وأن حضور الكثير منهم كان إما لغرض الاطلاع وإبداء الرأي وإما للترويح عن النفس. كما أقسم أني لم اطلع على أي مبرر شرعي يبرر استهداف أفراد من فئة واحدة بعينها بتهمة الحضور دون غيرهم».
شهادة القرن الواحد والعشرين: «اقسم بالله العظيم أن فصل العمال بسبب ذهابهم إلى الدوار أمرٌ معيبٌ ومظهرٌ من مظاهر التعسف والظلم وانفراط العدل، وهو خارج عن زماني ولا ينتسب إلى ركبي. وأشهد أن هذا الأمر وصمة عار في جبيني سيذكرها التاريخ بعارها وأنا حامل هذا العار قسراً».
وأقسم ثانياً: «أنهم سخروا مني بعد أن كنت اسخر من القرون الماضية لما بيني وبينها من اختلاف في الخلق والسلوك وتباعد في المعارج والأفق، ذلك لأني أمثـِّل عصر الحرية والديمقراطية والتقدم وتلك تمثل العبودية والجور والتسلط».
رابعاً: بعد أن عَلِمنا ما تقدم توجهنا إلى حضرة نبي الله ورسوله الأعظم محمد بن عبدالله (ص) حيث كان الحوار الآتي:
– يا رسول الله… ماذا تقول في قوم جاروا على قوم؟
قال: «إن بين الجنة والنار سبع عقبات أهونها الموت، وأصعبها حين الوقوف بين يد الله عز وجل إذا تعلق المظلومُ بالظالم… وأن الله سبحانه حمد نفسه عند هلاك الظالمين فقال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)».
– يا نبي الله… أخبرنا ما الحكم في من أعان ظالماً أو جائراً كشاهد الزور، والمحقق، والمُحِّكم، والمُحَّكم، والقاضي؟ قال: «من أعان ظالماً أو جائراً على ظلمه وجوره جاء يوم القيامة وعلى جبهته مكتوب «آيسٌ من رحمة الله»… وأن من يمشي مع ظالم ليعينه سلَّطهُ الله عليه عاجلاً أم آجلاً… أما القضاة فهم ثلاثة: قاضٍ قضى بالهوى فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير علم فهو في النار، وقاضٍ قضى بالحق فهو في الجنة». (انظر: كنز العمال خ 1498)
– يا حبيب الله ورسوله: وهل دعوة المظلوم حتماً مستجابة، وكيف؟
قال:»اتقوا دعوة المظلوم فإنما هو يَسألُ اللهَ تعالى حقه، وأن الله سبحانه وتعالى لن يمنع ذي حق حقه».
– يا رسول الله… وماذا لو كان ذاك الجور ظلماً وقع على الأجير؟
قال: «إن الله غافر كل ذنب إلاّ من ظلم أجيراً، فلعنة الله عليه». (أنظر: مستدرك الوسائل، مجلد 2، صفحة 508 وما بعدها).
هذا ما أخبرنا به رسول الله (ص)، وحيث انه لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحي يوحى، فلا كلام يَصحُ دونه ولا قول يُكْمِلُ قوله
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3333 – الأحد 23 أكتوبر 2011م الموافق 25 ذي القعدة 1432هـ