عبد الاله بلقزيز
ليس من ديمقراطية، في التاريخ تجزّئ الأوطان، وتفتت وحدة الشعب والكيان، وتقود المجتمعات إلى الفتن والحروب الأهلية . كل “ديمقراطية” من هذا النوع عليها ألف علامة استفهام . إنها التفتيت ونشر الفوضى وقد تَلَفعا برداء فكرة عظيمة . وكم من فكرة عظيمة في التايخ الإنساني ابتُذِلَتْ وأهِينَ معناها حين تحوّلت إلى غطاء وذريعة لأبشع الجرائم ضد الإنسانية وأشدها هَوْلاً، ألم تكن فكرة الحرية، وقد مات من أجلها الملايين في المجتمعات الغربية في القرن 17 و18 و،19 غطاء للاستعمار والمْيْزِ العنصري والحروب الكولونيالية؟ ألم تكن فكرة الاشتراكية غطاء للقمع والتسلطية والكلانية “التوتاليتارية”؟ أليس باسم الإصلاح دخل الاحتلال الأجنبي إلى ديارنا منذ فجر القرن التاسع عشر؟
“الديمقراطية” التي من هذا النوع تزوير فاضح لمعنى الديمقراطية، بدعة مذمومة بلغة أهل الفقه، طريقة أخرى – ماكرة – لقطع الطريق على ميلاد الديمقراطية، على إصلاح سياسي متدرج يقود إليها حكماً، في نهاية المطاف . وإلى ذلك فالديمقراطية تقتضي وجود ديمقراطيين، وهؤلاء لا يكفي أن تكون وسائلهم في النضال ديمقراطية ونظيفة، بل ينبغي أن يكون وعيهم وعياً ديمقراطياً، أو متشبعاً بالقيم الديمقراطية والمدنية، وبحيث يقع تنزيل تلك المبادئ والقيم على السياسة والممارسة السياسية، فينتظم أمر الأخيرة على مقتضاها . لا فكرة من دون حَمَلةٍ اجتماعيين مناسبين يحولونها إلى واقع مادي، وبالتالي لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين . وكما قد يسيء إلى الإسلام من يزعمون أنهم يحملون تعاليمه فينشرون العنف والإرهاب والتعصب، ويحسبون ذلك من الإسلام، كذلك يسيء إلى الديمقراطية من يدخل المجتمع في نفق الحرب الأهلية، ويحسب أن ذلك من الديمقراطية والنضال الديمقراطي، الفكرة العظيمة يحملها الرجال المناسبون لها، وإلا عُبِثَ بها وأُسيء إليها .
أي نضال ديمقراطي هذا الذي يكون بالسلاح، حتى لو جرى ذلك باسم الدفاع عن النفس من قمع السلطة؟ متى كان الديمقراطيون يعتلون صهوة العنف ويتوسلون أدواته؟ لا عنف مشروعاً – خارج العنف الشرعي بلغة ماكس فيبر – إلا العنف الوطني المسلح ضد الاحتلال الأجنبي . أما العنف الداخلي، من أجل حيازة السلطة، فليس شيئاً آخر سوى الحرب الأهلية . وهو خطر مضاعف في المجتمعات المتنوعة التكوين الاجتماعي: الأقوامي، والطائفي، والمذهبي، والقبلي، والعشائري . . إلخ .
ولست أفهم شخصياً، بإمكاناتي الذهنية المتواضعة، كيف تخرج الديمقراطية من رحم الحرب الأهلية والدمار العظيم لوحدة الكيان والشعب، ولا كيف يجيز الشغف بالسلطة المغامرة بتعريض السلم الأهلي للتصدع، والاحتراب وسفك الدماء، وتدفيع المدنيين العزل ثمن مغامرة الوصول إلى السلطة، بل لسنا نفهم كيف يجيز “ديمقراطيون” التدخل الأجنبي، ويطلبونه ويسعون فيه، من أجل أن يصلوا إلى السلطة؟ أليس على المرء أن يكون وطنياً كي يكون ديمقراطياً؟ أليست الديمقراطية من أجل الوطن، ومن أجل منعته وسيادته، وليست عليه أو ضده؟
الثورة الديمقراطية هي، بالتعريف، ثورة مدنية نظيفة لا شوب في نظافة وسائلها، أو هي – على الأقل – كذلك بالنسبة إلى المدنيين المتظاهرين، والمعارضات الديمقراطية الحقيقية . نجحت شعوب عدة، في العقود الثلاثة المنصرمة، في تحقيق تغيير ديمقراطي لنظم الحكم فيها من دون أن يطلق متظاهروها ومعارضوها رصاصة واحدة في المواجهات مع القوى النظامية . هكذا فعلت شعوب شرق أوروبا، في بولونيا، وتشيكوسلوفاكيا، وهنغاريا، وألمانيا الشرقية، غيرها، في مواجهة أنظمة كلاّنية وتسلطية . ومثلها فعلت شعوب أمريكا اللاتينية، في الأرجنتين، والبرازيل، والشيلي، والأورغواي، والبيرو، وغيرها، في مواجهة الفاشيات العسكرية . وحتى حينما اشططت السلطة في قمع المتظاهرين، كما في غدانسك في بولونيا على عهد الجنرال ياروزلسكي، أو كما في تيميشوارا في رومانيا في عهد نيكولاي تشاوشيسكو، لم تقابل المعارضة عنف السلطة بعنف أهلي مضاد، ولا سعت في استقدام التدخل الأجنبي، باسم “حماية المدنيين” . ولذلك حمت المعارضات تلك أوطانها من الحروب الأهلية ومن الاستباحة الأجنبية؟
ترى، هل سنتعلم من دروس غيرنا؟
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.