الديكتاتورية العربية حلقة واحدة من سلسلة أمراض مزمنة
إسقاطها لن يكتمل إلاَّ بإسقاط أسبابها
حسن خليل غريب
مات النظام، عاش النظام
سقط النظام، قام النظام
هل نختزل مشكلتنا بإسقاط النظام الديكتاتوري، حتى إذا أسقطناه فسوف نشفى من كل أمراضنا؟ وهل اختزال المشكلة بـ(إسقاط النظام) يضمن للشعب حريته ويعيد له حقوقه المسلوبة؟ وهل في إسقاط نظام سياسي، في ظل غياب وعي نهج النظام البديل، علاج للمشكلة؟ وهل معرفة وسيلة الهدم تكفي كوسيلة للتغيير، إذا لم تكن مترافقة مع معرفة وسيلة إعادة البناء؟
لقد أثبتت تجربة السنتين المنصرمتين أن شعار (الشعب يريد إسقاط النظام)، على الرغم من ثوريته وتقدميته، هو شعار ناقص وغير مكتمل وهو غير من محصَّنٍ من تفريغه من محتواه وشدِّه إلى غير مساراته. ويصح فيه القول: (الثورة يفجرها مجنون، ويقطف نتائجها انتهازي).
فإذا كان حل المشكلة بهذا التبسيط، لكان الحراك الشعبي العربي قد أنجز نصف مهمة التحرر بأقل من سنتين، خاصة أنه أسقط أربعة أنظمة سياسية حتى الآن، وهو ما عجزت عنه عشرات الأحزاب والحركات السياسية منذ أكثر من نصف قرن بقليل. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤلات التالية على الرغم من قسوتها:
-أليس من المعيب أن تعجز الحركة الشيوعية بكل مذاهبها، والحركة القومية بكل أحزابها وأشخاصها، وحركات الإسلام السياسي بكل تلاوينها، عن إسقاط جزء من نظام طوال فترة نضالها لعشرات السنين؟
-أليس من المعيب أن ينجز الحراك الشعبي كل تلك النتائج بتلك السرعة الفائقة ما عجزت عن إنجازه مئات الأحزاب طوال عقود طويلة؟
-أليس من المعيب أن تعجز كل تلك الإيديولوجيات عن هزِّ قائمة واحدة من كرسي واحد من كراسي أولياء الأنظمة الديكتاتورية؟ تلك الإيديولوجيات التي سطرتها أقلام روادها بعشرات الآلاف من المجلدات؟
-أليس من المذهل أن عبارة واحدة: (الشعب يريد إسقاط النظام) لم تهزَّ أربعة عروش فحسب، بل لتسقطها بلكمة سريعة وقاضية أيضاً، فتتهاوى كمثل تهاوي إهرامات من الكرتون.
وإذا كانت تساؤلاتنا جاءت تحت تصنيف (المعيب)، فلنا تساؤلات أخرى تحت تصنيف (العجيب).
-أولاً: سقطت العروش ولم يبتهج الشعب وحده، بل ابتهجت معه إدارات الغرب والصهيونية أيضاً.
-ثانياً: سقطت عروش جُبِلت بطين الديكتاتورية، ولم يبتهج الشعب وحده، بل ابتهجت معه عروش جُبلت من الطين نفسه.
-ثالثاً: لم تسقط تلك العروش بفعل قبضات الشعب فحسب، بل سقطت بإسناد وتأييد إدارات الغرب والشرق والمنظمات الصهيونية أيضاً.
-رابعاً: لم تسقط الديكتاتوريات بفعل الهتاف الشعبي فحسب، بل سقطت بإسناد من أموال عروش جُبلت من نوع الطين الديكتاتوري نفسه أيضاً.
فبين معيبات تساؤلاتنا، وعجائبها، تهاوت الأنظمة، وارتفعت أنظمة.
سقط القمع السابق، ويعيش الآن القمع اللاحق.
سقط سارقو لقمة الخبز وحبة الدواء، وظلَّ الشعب جائعاً ومريضاً.
إنها مفارقات وعجائب. إنها سحر وطلاسم.
على الرغم من وجوب إسقاط الأنظمة الديكتاتورية، لو كان إسقاطها يشكل العلاج لمشاكل الأمة، لكان يجب أن نقول: فعلاً إن ثورة قد حصلت، وما على الشعب العربي إلاَّ أن ينتقل إلى مرحلة البناء بعد أن كسر الحواجز وأزال العوائق أمام الأمة العربية.
أما، ولأن الأنظمة الديكتاتورية تمثل الغصون اليابسة من شجرة الشر، شجرة الأمراض التي تعاني منها الأمة العربية، فإن إسقاطها هو كمثل من يزيل القشور اليابسة ويترك جذور المشاكل التي ستفرِّخ أمراضاً أخرى، وذلك يعني أن الشعب يُسقط النتائج ويعفو عن الأسباب. وهذا بمفاهيم الطب العلاجي يُعتبر من أسوأ أنواع الطب. والطب العلاجي يقتضي القضاء على الجراثيم التي تولِّد الأمراض. ولهذا أيضاً اكتشفنا أن شعار: (مات الملك، عاش الملك) هو ما ينطبق على نتائج الحراك الشعبي العربي الراهن، فتحول المثل التقليدي إلى مثل تجديدي يقول: (مات النظام، عاش النظام)، أي (ماتت الديكتاتورية، عاشت الديكتاتورية)، (سقط لصوص الخبز، وعاش الجوع)، (سقط سوط القمع، عاش سوط القمع). ولهذا ليس ما قمنا بتصنيفه أعلاه، من باب العجائب وليس من باب الغرائب، بل من قبيل العجز عن التشخيص السليم الذي يقود إلى وصف علاج يساعد على استفحال المرض وليس للقضاء عليه.
-فلو أسقطنا ديكتاتورية بالفعل بوسائل ديكتاتورية بالقوة، لكان الحصاد ليس أكثر من (ماتت الديكتاتورية، عاشت الديكتاتورية).
-ولو أسقطنا الطائفية بالفعل بوسائل طائفية بالقوة، لكان الحصاد ليس أكثر من (ماتت الطائفية، عاشت الطائفية).
-ولو أسقطنا العشائرية والقبلية بالفعل بوسائل عشائرية بالقوة، لكان الحصاد (ماتت العشائرية والقبلية، عاشت العشائرية والقبلية).
-ولو أسقطنا من التحقوا بالاستعمار بالفعل بوسائل من هم ملتحقون به بالقوة، لكان الحصاد (مات وكلاء الاستعمار، عاش وكلاء الاستعمار).
-ولو أسقطنا تدخلاً أجنبياً وجئنا بتدخل أجنبي من لون آخر، لكان الحصاد (مات الشرق، وعاش الغرب)، أو (مات الغرب، وعاش الشرق).
-ولو أسقطنا الفاسدين بالفعل بوسائل الفاسدين بالقوة، لصحَّ المثل فينا (مات الفاسدون، عاش الفاسدون).
ولهذا كله نقول: إن أمراض أمتنا العربية أمراض مركبة، وهي خليط مترابط من الاستعمار والصهيونية ووكلاء الاستعمار والصهيونية والطائفية والعشائرية والقبلية ووكلاء الشركات الصناعية الأجنبية، وعلى رأس كل تلك الآفات تأتي آفة الجهل والأمية… وسيتولَّد عن وجود كل تلك الآفات آفة الديكتاتورية والفساد، فالقمع والجوع والجهل والمرض… ولهذا فلا علاج لأمراض الأمة المركَّبة إلاَّ بأدوية مركَّبة. ومن ينتظر أن يعالج أمراضها باختزالها بعلاج مرض واحد فسوف يحصد الريح، وكأنه لم يعالج شيئاً. فالجسد المصاب بالأمراض يصح القول فيه: كلما عالجت مرضاً من دون الاهتمام بالأمراض الأخرى، هو كمثل من يحاول ترقيع ثوب مهلهل، كلما رقع جزءاً منه تتفتق منه أجزاء.
ولو عدنا قليلاً إلى أعلى هذا المدخل النظري، لوجدنا أن (الثورة) لم تغيِّر إلاَّ الشكل. فالأنظمة الجديدة لا تملك عصاً سحرية للتغيير، هذا إذا كانت لديها برامج بديلة ومناهج جديدة للحكم، فكيف يكون الأمر إذا غابت مفاهيم مناهج التغيير وبرامجه؟
وهنا، لا يفوتنا القول لمن أسقط أنظمة ديكتاتورية وحسب أنه بلغ ذروة التغيير: لقد غيَّرت شيئاً، وغابت عنك أشياء. وحتى لا يفهم من يريد أن يلتقط جملة من الكلام مفصولة عما قبلها وعما بعدها، نقول: إسقاط الديكتاتورية فرض عين، فعلى من يؤديه أن يستكمله بما يضمن اجتثاثها بطريقة تحول دون تفريخها من جديد، ومن أهم تلك الضمانات يأتي إسقاط التدخل الأجنبي وتأثيراته، وكذلك إسقاط كل نهج للطائفية والعشائرية والعرقية، والعمل على اجتثاث كل نهج للسمسرة والوساطة لمصلحة مصانع الشركات الأجنبية، بالمعنى الاقتصادي. وكذلك اجتثاث كل نهج ثقافي يلعب دور الوساطة والسمسرة لإيديولوجيات الخارج الثقافية السياسية منها أم الفكرية.