منذ اتجهت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بزعامة الرئيس ياسر عرفات، نحو القبول بالتسوية السلمية مع العدو الصهيوني، إثر حرب أكتوبر عام 1973م، وحتى يومنا هذا، والجدل محتدم بين مختلف الأطراف ذات العلاقة، حول فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة، على الأراضي التي احتلت في حرب يونيو 1967م، وتحديداً في الضفة الغربية وقطاع غزة .
وفي هذا السياق، يستعر الجدل بوتائر عالية، في الأوساط الفلسطينية و”الإسرائيلية” على السواء . وكان موضوع الدولة الفلسطينية محرضاً لانعقاد عدد من المؤتمرات السياسية في الكيان الغاصب . وبالمثل كرست منظمة التحرير عدداً من دورات المجلس الوطني الفلسطيني لمناقشة هذا الموضوع، ومحاولة التوصل إلى رؤية سياسية مشتركة بين فصائل المقاومة حوله .
الموقف المتشابك أحياناً والمتنافر في أغلب الأحيان من موضوع الدولة الفلسطينية، هو استمرار للوضع الاستثنائي والفريد للقضية الفلسطينية . فبخلاف حركات التحرر الوطني العالمية، واجه مشروع تحرير فلسطين منذ بداية انطلاقه صعوبات بالغة . فلأكثر من قرن من الزمن، منذ عقد المؤتمر الأول للحركة الصهيونية، في بازل عام ،1895 التي أقرت تسمية فلسطين، بقعة مقترحة لتأسيس وطن قومي لليهود، اصطدم الكفاح الفلسطيني بظروف دولية وإقليمية ومحلية بالغة التعقيد .
وقفت القوى الدولية العظمى بقوة إلى جانب المشروع الصهيوني . واستثمر الصهاينة الميثولوجيا الدينية، وعقدة الاضطهاد والتفوق، بما تحمله هذه العناصر من نزعات عنصرية واستعلائية، جرى توظيفها للإسراع في تنفيذ اغتصاب فلسطين . فرض تقسيم فلسطين بموجب قرار أممي حمل الرقم ،181 في نوفمبر/تشرين الثاني 1947م، الذي قسم فلسطين بين العرب واليهود، وأنجز مشروع قيام الدولة اليهودية، بإسناد دولي، لكن حلم الفلسطينيين بإقامة دولة خاصة بهم، بقي مؤجلا حتى يومنا هذا .
بعد الإعلان عن قيام الكيان الغاصب، أصبحت معضلة تحرير فلسطين، تكمن في تحولها من بلد يحتله البريطانيون بموجب صك انتداب أممي، إلى كيان استيطاني، أصبح السكان الأصليون فيه أقلية . وغدت فيه الضفة الغربية وقطاع غزة رهينتين تحت سيطرة أنظمة عربية، لم تحمل رغم خطاباتها العنترية مشروعاً لتحرير الأراضي المقدسة . وحين أجبرت هذه الأنظمة على الانهماك في هذه القضية، أمسى موضوعها الرئيس هو استعادة الأراضي التي فقدتها في نكسة يونيو/حزيران وليس تحرير فلسطين .
وبدلاً من توحد الفلسطينيين حول هدف واستراتيجية التحرير، تسببت في حدوث شروخ عميقة بين فصائل المقاومة الفلسطينية . فمنذ السبعينات من القرن الماضي انقسم المقاومون الفلسطينيون إلى أطراف عدة، الأبرز بينها قبل الدخول في مفاوضات مباشرة مع “الإسرائيليين”، على قاعدة القبول بالممكن، وبما يتسق مع التسليم بقرارات وليست مبادئ “الشرعية الدولية”، وبشكل خاص قرار مجلس الأمن الدولي رقم ،242 الذي اعتبر مستشار الرئيس الأمريكي جونسون للأمن القومي، هنري كيسنجر القبول به شرطاً للدخول في أية مفاوضات سلمية، بين العرب والصهاينة . وطرف آخر عدمي، يرفض التسليم، لكنه لا يحمل مشروع تحرير قابلاً للتنفيذ على أرض الواقع، وكان شعار الكفاح المسلح يتراجع عملياً لمصلحة الحلول السلمية .
هذه المقدمة، تضعنا أمام مسألة الدولة الفلسطينية، العنوان الذي تصدر نشرات الأخبار في الأسابيع القليلة المنصرمة، بعد زيارة رئيس السلطة، محمود عباس وإلقاء خطابه التاريخي في نيويورك، أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ومطالبته المجتمع الدولي بالاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية المستقلة، واعتبارها عضواً في الأمم المتحدة، والمؤسسات الدولية الأخرى . مشروع أبو مازن، رغم أنه يتسق مع مبادئ القانون الدولي، وحق الأمم في الحرية وتقرير المصير، لكنه يواجه بجدار كثيف من الرفض، من قبل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ورئيس الحكومة “الإسرائيلية”، بنيامين نتنياهو . وقد أعلن المندوب الأمريكي في مجلس الأمن الدولي أن بلاده ستستخدم حق النقض، في حال عرض المشروع للتصويت .
وعلى صعيد الفلسطينيين، يواجه المشروع معارضة حادة من قبل شرائح واسعة، وبشكل خاص من قبل الفلسطينيين في قطاع غزة، تحت قيادة حركة حماس، وفي المنافي، وقد تجاوز تعدادهم السبعة ملايين نسمة، يقيمون في الشتات وفي المخيمات المنتشرة في الأردن وسوريا ولبنان . فهؤلاء يرون أن الدولة ينبغي ألا تكون ثمرة التفريط في الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني . وهكذا نجد أنفسنا أمام فصل جديد من صراع الإرادات .
بالنسبة للكيان الصهيوني، لا يتوقف الأمر عند رفض المشروع ومطالبة السلطة بالعودة للمفاوضات كطريق وحيدة، للقبول بقيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلها الصهاينة عام ،1967 ولكنه يصل حد التهديد باجتياح “إسرائيلي” لمدن الضفة الغربية . ولتبدأ مرحلة جديدة من مصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، كردّ عملي من قبل الحكومة “الإسرائيلية” على مشروع الاعتراف بالدولة الفلسطينية .
يواجه نتنياهو المطلب الفلسطيني الذي ينتقص كثيراً من حقوق الفلسطينيين بالرفض والتحدي، فيعلن عن بدء حكومته تنفيذ خطة لبناء 1100 وحدة استيطانية جديدة في مستعمرة جيلو في محيط القدس الشرقية . ونتنياهو بتحديه للقرار الفلسطيني، لا يستبعد اندلاع انتفاضة فلسطينية، لا يعلم أحد مداها ومستوى العنف الذي يصاحبها . وهو بخطوته هذه يمارس عملية تصدير للأزمة التي تعصف بحكومته، نتيجة تصاعد الاحتجاجات في فلسطين الداخل، والمتمثلة في المظاهرات الصاخبة من قبل “الإسرائيليين” الذين يطالبون بالعدالة الاجتماعية .
وكان نتنياهو شكل لجنة من الخبراء برئاسة البروفيسور مانويل تراختنبرغ لإعداد خطة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وقدمت توصياتها للحكومة، مطالبة بخفض الميزانية الأمنية بمبلغ 3 مليارات شيكل سنوياً بدءاً من السنة المقبلة . وقد رأى رئيس أركان الجيش “الإسرائيلي” الجنرال بني غانتس في تخفيض الميزانية العسكرية عودة بالجيش إلى أوضاع ما قبل حرب لبنان في يوليو/تموز 2006 .
وتذهب بعض التحليلات إلى ما هو أبعد من ذلك، فتذكر احتمال إقدام نتنياهو على اتخاذ قرار بقيام الكيان الصهيوني بتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، هروباً للأمام من الأزمة التي تواجهه، ولفرض واقع جديد، يجعل القضية لفلسطينية، إلى ما لا نهاية، في أدنى اهتمامات المجتمع الدولي .
من غير المتوقع أن تسلم أي حكومة “إسرائيلية” يمينية، بقيام دولة فلسطينية، حتى إن كان استقلالها شكلياً، يضمن بقاء الفلسطينيين رهائن لجيش الاحتلال “الإسرائيلي” . ويستدل كثير من المحللين على ذلك باستشهاد نتنياهو في خطبته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأقوال الحاخام العنصري “من لوبافيتش” الذي اشتهر بمعارضته الشديدة لانسحاب “إسرائيل” من الأراضي التي احتلتها، في مقابل سلام شامل . لقد قدم له الرئيس الأمريكي، باراك أوباما ولاءه الكامل، وليس هناك ما يجبره على التراجع عن موقفه الرافض للتسليم بالحقوق الفلسطينية المشروعة .
خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالأمم المتحدة جاء بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على خطاب الرئيس ياسر عرفات، الذي أعلن فيه، من على نفس المنصة أنه جاء حاملاً البندقية بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى، مطالباً المجتمع الدولي بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية، ولم تشفع له البندقية ولا غصن الزيتون أو تقربه من هدف التحرير . خطاب أبو مازن، جاء حاملاً غضن الزيتون فقط، وهو غصن تيبس من طول الانتظار، وجرّد من أي قوة ومضمون . فقد هُودت القدس جغرافياً وبدأ تهويدها ديموغرافياً، ولحقت بها الضفة أو تكاد، وحولت غزة إلى معتقل كبير، وجرى بناء الجدران العازلة . وتتسارع نوايا الترانسفير للوطن البديل، كما أن القيادة الفلسطينية قد تسببت في تآكل الكثير من الحقوق .
وتبقى المحاور كثيرة ومفتوحة، وستظل فرص قيام الدولة الفلسطينية رهناً لصراع الإرادات .