الدستور العصري من مستلزمات الديمقراطية
د. غالب فريحات
العمل على اتباع النهج الديمقراطي السليم، يستلزم وجود دستور عصري، يجاري متطلبات العصر، ومقتضيات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن الضروري لكل ودولة ان تقوم بين الفينة والاخرى على اعادة النظر في دستور البلاد، والعمل على اعادة صياغة جديدة لمواد الدستور،
او وضع دستور جديد يعرض على الاستفتاء الشعبي، او على ممثلين حقيقيين للشعب، وبشكل لا يستثنى جهة من فئات الشعب او مؤسساته.
تناضل الشعوب نضالا مريرا للحصول على حقوقها من اجل المشاركة في الحكم، الامر الذي يعني انشاء برلمان او مؤسسات تمثيلية، يتم من خلالها المشاركة بالسلطة، وان تعيش الشعوب في ظل حياة سياسية منظمة يحكمها الدستور والقانون، ومن الضروري ان لا يصدر الدستور بطريقة المنحة، وهو اسلوب سائد في نشأة الدساتير، لان مثل هذا النوع من الدساتير لا يعطي الشعب اية حقوق او صلاحيات، ودور السلطة التشريعية يكون ضعيفا جدا، كما ان الدستور الذي يصدر بطريقة العقد يعد الشعب مغيبا، ولا يشارك في اعداد الدستور، وهذا النوع من الدساتيرمن الناحية القانونية اقرب الى الاتفاقية لتكرّس حكم السلطة.
ان الدستور هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم الحياة السياسية، وتوضح كيفية ممارسة الشعب لصلاحيات الحكم، وتعمل على تحديد صلاحيات الحاكم، والواجبات التي لابد وان يلتزم بها، وما دامت الدساتير تأتي ملبية لرغبات الشعب، وتطلعاته الدائمة والمستمرة في مسيرة حياته، لذا فان تعديلات الدستور او وضع دستور جديد امر طبيعي، من اجل الاستجابة للظروف والمتغيرات، وحاجات الشعوب المتجدة، بحيث تتواءم نصوص الدستورمع تطورات الحياة في المجتمع، وبغير ذلك فان الدستور يصبح بمثابة ورقة لا قيمة لها، وتجعل من واقع الحياة على الارض بلا قيمة.
ان وضع دستور جديد دوما يتطلب الى اعادة النظر في مجمل القوانين والتشريعات، التي تعيق المسيرة الديمقراطية، بحيث يأتي الدستور الجديد منسجما مع تطلعات الشعب، وملبيا لمجريات الحياة الجديدة التي طرأت، في ظل التقدم الذي صاحب مسيرة الحياة التي بدون ادنى شك انها قد تغيرت كثيرا في المدة الزمنية التي اعقبت وضع الدستور القائم.
ان احترام الدستور وعدم المساس بمواده الدستورية، وعدم السماح بتغول السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة التشريعية، والتطاول على القضاء من مستلزامت تطبيق النهج الديمقراطي، والا فان نظام الحكم يتطاول على الشعب، ويمارس دوره السياسي غير الشرعي، الذي يبعده عن التمثيل الحقيقي للشعب، ويصبح دوره تسلطيا يجد معارضة شديدة ظاهرة او مستترة.
ان الانفتاح السياسي والعمل على تعزيز الاستقرار الاجتماعي، والسعي لتوسيع القاعدة الشعبية، والالتزام بحقوق المواطن، ونيله لكرامته غير المنقوصة، الامر الذي يساعد النظام السياسي على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، التي تواجه البلاد، مما يعني ان اية تعديلات تجري على الدستور في ظل غياب التمثيل الحقيقي للشعب، تؤدي الى
تشويهه من جهة، او الحاجة الى تطويره من جهة اخرى، ووضع دستور جديد من متطلبات الاصلاح السياسي المنشود.
ان اية تعديلات التي تجرى على مواد الدستور لا تملك الشرعية ولا المصداقية في ظل غياب تمثيل حقيقي للشعب، وان الحكومات او رأس السلطة التي اقدمت على مثل هذه التعديلات، قد ساهمت في خلل العلاقة بين توازن السلطات، وجعلت من السلطة التنفيذية صاحبة اليد الطولى على السلطتين التشريعية والقضائية، وتمت عملية اضعاف الاحزاب السياسية، وتغييب دور مؤسسات المجتمع المدني، والعمل على تعزيز دور الاجهزة الامنية، والنفخ في في دور البنى العشائرية والطائفية والاقليمية، والمساهمة في انتشار الفساد، وانتهاك حقوق الانسان، وتوسيع الفجوة بين السلطة ـ الحاكم ـ والشعب، وضعف وتيرة التنمية بكل ابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
من الضروري جدا ان يكون النهج الديمقراطي قائم على اجراء انتخابات في ظل قانون انتخابي، يتيح الفرصة لتمثيل حقيقي للمجتمع، والعمل على تجسيد نظرية الفصل بين السلطات على صعيد الممارسة والتطبيق، واحترام احكام الدستور، والالتزام به من قبل الحاكم والمحكوم، وان تحترم رغبة الجماهير ونتائج الانتخابات، واكمال المجالس النيابية لدورتها الانتخابية، والايمان بحق المعارضة السياسية في الوصول الى السلطة عن طريق الانتخابات.
ان العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان من اجل مستقبل افضل، ومن اجل تحقيق متطلعات واعدة ومستقبلية لابناء الشعب، تدفع بوضع دستور يوضح حدود الحاكم وصلاحياته، وحجم التمثيل الشعبي في السلطة، لان السلطة ملك الشعب، وما الحاكم الا خادما امينا لهذا الشعب وليس العكس، كما يجري التغني اليومي في حياة الحاكم على حساب الوطن والشعب، مما يعني ان التأكيد على الدور التمثيلي للشعب يحتاج الى قانون عصري، يفرز ممثلين حقيقيين له، ومن اجل سلطة تشريعية ورقابية قوية للمجالس التمثيلية، لوضع حد لحالة التسيب في الحكم، وتطاول السلطة التنفيذية، وتغييب دور السلطة القضائية ودورها النزيه، وهو ما يجعل من العمل الحزبي المنظم اكثر من ضرورة، اذ انه لا ديمقراطية بدون تعددية حزبية، وتطبيق مفهوم مبدأ تداول السلطة.
ان النظام الديمقراطي القائم على تنظيم حياة المجتمع، من خلال دستور يمثل الشعب تمثيلا حقيقيا، وقوانين ناظمة للحياة السياسية، وممارسة لكل سلطة من السلطات لدورها كما ينص عليه الدستور، الى جانب دور فاعل ومؤثر لمؤسسات المجتمع المدني من احزاب ونقابات…الخ، وصحافة تتمتع بالموضوعية وحرية مسؤولة، كل ذلك يكون بمثابة السد القوي في وجه التحديات الخارجية، التي قد تواجه الوطن وتستهدفه، وتساهم في التعامل مع التحديات الداخلية بكل اريحية، ووضع الحلول المناسبة والناجعة باسلوب علمي، من خلال التخطيط العلمي السليم، القائم على حشد قوى المجتمع، وامكانيات البلاد المادية والبشرية