د. علي خليفة الكواري
نعم، الخلل السكاني اعتداء على حقوق المواطن في أي بلد كان. وتفاقم الخلل السكاني في بعض دول الخليج العربي هو اعتداء صارخ على حقوق المواطن. فمن حق المواطنين في وطنهم أن يكون لهم دور، وأن يكونوا هم التيار الرئيس في المجتمع، وأن تكون هويتهم هي الهوية الجامعة ولغتهم هي اللغة السائدة، ومصالحهم المشروعة عبر الأجيال وحماية مصير مجتمعهم من التفكك والنكوص هي محط الخيارات والموجّه للقرارات العامة وعلى رأسها السياسة السكانية. هذا إلى جانب حقوق الإنسان التي يشاركهم فيها كل من يقيم على أرض وطنهم.
فأين دول الخليج العربي بشكل عام من مراعاة حقوق المواطن هذه؟
لقد فاجأتني الإحصاءات والتصريحات الرسمية في عدد من دول الخليج في مطلع 2008، كما سوف تفاجئ المتتبعين الآخرين لمخاطر استمرار الخلل السكاني والداعين إلى تصحيحه. إن هذه الإحصاءات المفاجئة والتصريحات الرسمية التي تؤكدها، تعبر عن توجهات تجارية مخيفة، يمكن أن نطلق عليها «توجهات ما بعد الخلل السكاني» أو زمن التحول والتراجع عن القول بضرورة تصحيح الخلل السكاني.
لقد أصبحت الخيارات والقرارات العامة تبدو اليوم غير معنية بالخلل السكاني، وغير مراعية لحقوق المواطن والحفاظ على لغته وهويته ووجوده. وأصبح خيار التوسع غير العقلاني في نشاط العقارات غير المبرر من وجهة نظر وطنية، هو أهم خيارات ما يسمى بالتنمية التي سبق وأن أسميتها بـ «تنمية الضياع»، ضياع الأوطان ونكوص المجتمعات الوطنية وتهديد مستقبل الأجيال المتعاقبة، عندما يصبح المواطنون أقلية في وطنهم، ويهمَّش دورهم الثقافي والإنتاجي والإداري، وتصبح أوضاعهم المعيشية رهينة المكرمات والقرارات الإدارية وما تبقى من حماية قانونية هي اليوم عرضة للتغيير في أي وقت.
وعندها يُلقى بالمواطنين في أتون منافسة غير عادلة مع نخب الوافدين من جميع أنحاء العالم. منافسة ينتظر أن يتحول بموجبها وضع المواطنين وثقافتهم ومجتمعهم إلى ما يشبه وضع المالاويين في سنغافورة الذي تراجع لصالح المهاجرين الصينيين، وأصبح المالاويون (السكان الأصليون)، في الدرجة السفلى سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا.
حالة الإمارات العربية المتحدة
كان أهل المنطقة في الماضي القريب، من مواطنين ومسؤولين حكوميين، يحذرون من خطورة الخلل السكاني في الإمارات، ومن نموذج دبي بشكل خاص، عندما بلغ عدد سكان الإمارات في عام 2001 حوالي 3.5 مليون نسمة، وتدنت نسبة المواطنين ضمن السكان إلى %20، ومساهمتهم في قوة العمل إلى %8.7. وكان من المنتظر أن يصحح ذلك الوضع المختل الخطر الذي لا نظير له في أي دولة في العالم، لكن المؤسف أن عدد سكان الإمارات في نهاية 2007 تضخم بأكثر من الضعف في غضون 5 سنوات، فبلغ ثمانية ملايين نسمة، وانخفضت نسبة المواطنين إلى إجمالي السكان إلى %10 فقط، وفي إجمالي قوة العمل إلى أقل من %5. وأصبح عدد المواطنين البالغين 800 ألف نسمة حوالي نصف عدد الجالية الهندية البالغة 1.5 مليون، كما ذكرت نشرة «The Economist Intelligence Unit» في عددها الخاص بالإمارات في نوفمبر 2007. وبذلك أصبح المواطنون أقلية في وطنهم، لا يتجاوز عددهم نصف عدد الجالية الهندية المطالبة بالتجنيس.
ومما يؤسف له حقا أن أبوظبي وبقية الإمارات أصبحت تنافس دبي في نموذجها العقاري وما يؤدي إليه من تفاقم الخلل السكاني. فأبوظبي، على سبيل المثال، تخطط لزيادة سكانها من 1.6 مليون إلى 3.1 مليون نسمة وفقا لخطتها المسماة «رؤية أبوظبي 2030». وفي تصريح لأحد المسؤولين في الإمارات، أشار إلى توجه خطر سوف يتم بمقتضاه استقدام مليون صيني، ربما نتيجة لما تقوم به الجالية الهندية من إضرابات وشغب. وكأني به «كالمستجير من الرمضاء بالنار».
حالة قطر
وفي قطر التي كان المسؤولون فيها ينتقدون نموذج دبي، وينأون بأنفسهم عن تقليده، فاجأني ما حصل خلال الأعوام الثلاثة الماضية. فقد بدأت بعض المعلومات والتصريحات تشير إلى تفاقم الخلل السكاني بشكل أصبح فيه الوضع السكاني في قطر أشبه بالإمارات، وربما يسير بوتيرة أسرع ينافس فيها نموذج دبي.
وما يجدر التوقف عنده ليس مجرد الزيادة المذهلة في حجم السكان وتدني نسبة المواطنين فقط، وإنما أيضاً استمرارية السبب الرئيس الذي أدى إلى ذلك التفاقم المفاجئ للخلل السكاني.
والسبب الرئيس لهذه الزيادة اللافتة في حجم سكان قطر هي السياسة التي تم بموجبها بيع أراض عامة، كما سمح باستملاك الأجانب للعقارات والقيام بالاستثمار العقاري، وجرت الموافقة على منح إقامات مفتوحة لكل من يملك شقة في المناطق المخصصة لشراء غير القطريين. ومن هذه المناطق مدينة الوسيل التي صممت لإسكان 200 ألف نسمة، معظمهم -إن لم يكن كلهم- من غير القطريين، الأمر الذي أدى إلى جانب سياسة الاستملاكات، إلى توسع هائل في النشاط العقاري تسبب في إزالة مناطق سكنية جديدة أربكت إزالتها الفجائية حياة المواطنين، حتى أطلقت إذاعة لندن على الوضع «تسونامي»، هذا إلى جانب ما أدت إليه من استقدام عمالة كثيفة.
وتفيد المعلومات والتصريحات المنشورة في الصحف أن قطر تخطط لبناء 800 برج، تم إكمال 50 برجا منها فقط، و150 تحت الإنشاء. وهناك 600 برج ينتظر بناؤها في السنوات القليلة القادمة.
ومن تبعات هذا الخيار العقاري، الزيادة المخيفة في حجم السكان وتدني نسبة المواطنين. فسكان قطر الذين استقر عددهم في عقد التسعينيات الماضية، وارتفعت نتيجة لذلك الاستقرار نسبة المواطنين من %28 عام 1993 إلى %31.50 عام 2001، عكس اتجاهه الحميد فجأة مع الأسف منذ عام 2004 على وجه الخصوص، إذ تضاعف حجم السكان من حوالي 700 ألف عام 2004 إلى 1.5 مليون في مطلع عام 2008. وينتظر أن يصل حجم سكان قطر في عام 2012 إلى 2.3 مليون نسمة حسب التصريحات الرسمية.
ونتيجة لذلك، تدنت نسبة المواطنين من إجمالي السكان من حوالي %29 عام 2004 إلى %16 فقط في مطلع عام 2008. أما مساهمة القطريين في قوة العمل، فربما تدنت إلى %7 في مطلع عام 2008 بعد أن كانت حوالي %15.
وللعلم، فقد قُدّر سكان قطر بحوالي 560 ألف نسمة عام 1993، و600 ألف عام 2001. كما قُدّر عدد القطريين عام 1993 بحوالي 172 ألفا، و190 ألفا عام 2001، و205 آلاف عام 2004، وبلغ عدد المواطنين 240 ألف نسمة في مطلع 2008.
حالة البحرين
ولعل ما نشر في البحرين من إحصاءات مخيفة تؤكد لنا أيضا أن السبب الرئيس في تضخم حجم سكان بعض دول الخليج العربي وتدني نسبة المواطنين في إجمالي السكان وفي قوة العمل، هو خيارات التوسع المفاجئ في النشاطات العقارية. فالبحرين، مثلها مثل دبي، لا تملك صادرات معتبرة من النفط الخام أو الغاز المسال مثل قطر وأبوظبي، وإنما فتحت المجال لتوسع عقاري على نمط الإمارات وقطر، وقامت الحكومة ببيع الأراضي وتسهيل إقامة المدن والمناطق الجديدة، وما تتطلبه من تسهيلات الإقامة الدائمة واستقدام العمالة الوافدة بشكل كثيف غير مسبوق في البحرين التي تعاني من بطالة مزمنة وأزمة إسكان بالنسبة للمواطنين.
فقد نُشر في صحف البحرين يوم 28/2/2008 بأن عدد سكان البحرين زاد بنسبة %42 خلال عام واحد من 742 ألف نسمة عام 2006 إلى 1.05 مليون عام 2007، نتيجة لتضاعف عدد الوافدين تقريبا، إذ زاد عددهم من 283 ألفا إلى 517 ألفا، وبذلك تدنت نسبة المواطنين في إجمالي السكان من الثلثين إلى النصف، وفي قوة العمل تدنت مساهمة البحرينيين من حوالي %35 عام 2006 إلى %15 فقط عام 2007. هذا رغم أن عدد المواطنين قد زاد في عام واحد بنسبة %15، من 459 ألفا عام 2006 إلى 529 ألفا عام 2007 بسبب سياسة التجنيس الكثيف التي اتبعتها حكومة البحرين، والتي أدت إلى ارتفاع الزيادة السنوية في عدد المواطنين من %2.3 إلى %15، وفي هذا إضرار بمصلحة المواطن وتقويض لوضعه مرتين.
من ضيع وطن وين الوطن يلقاه
في الختام، وفي ضوء هذه المعطيات والتداعيات المتوقعة لتفاقم الخلل السكاني، وجدت نفسي محتارا بشأن مَنْ أُوجِّه إليه خطابي هذا. فقد سبق وكتبت في الموضوع مرارا منذ عام 1981، حين أصدرت كتيبا بعنوان «نحو فهم أفضل لأسباب الخلل السكاني»، دون أن ألقى جوابا. فقررت أن أتقدم ببلاغ إلى من يهمه الأمر، وأرجو ألا يسجل هذا البلاغ ضد مجهول.
ومن يهمهم أمر الحفاظ على الوطن وعدم ضياع الهوية العربية الإسلامية ونكوص المجتمعات الوطنية في دول المنطقة، هم المواطنون جميعا، حكاما ومحكومين في دول المنطقة، ومن بعدهم العرب الآخرون، كي لا تضاف نكبة أخرى إلى نكبات الأمة العربية.
وأقول في بلاغي هذا بخطورة ما أكدته الإحصاءات والتصريحات من تدني نسبة المواطنين في إجمالي السكان إلى %10 في الإمارات و%16 في قطر، وإلى النصف في البحرين بعد أن كانت قبل عام واحد فقط تساوي الثلثين. أما مساهمة المواطنين في إجمالي قوة العمل فقد تدنت إلى %5 في الإمارات، و%7 في قطر، و%15 في البحرين.
وأطالب بسرعة معالجة الخلل السكاني والتصدي لأسبابه المفاجئة إلى جانب أسبابه المزمنة. أما حول السبب الرئيس لتفاقم الخلل السكاني الراهن هذا، بدلاً من تصحيح الخلل السكاني وما يتطلبه من ضرورة عكس اتجاه تدني نسبة المواطنين في السكان ومساهمتهم في إجمالي قوة العمل، فإنني أعيده بشكل رئيس إلى الخيار الذي تم اتخاذه ووضعت السياسات لتحقيقه، وهو التوسع في بيع الأراضي العامة، وتشجيع المستثمرين الأجانب على الاستثمار، وتسهيل الإقامة الدائمة لملاك الشقق في المناطق الجديدة من غير المواطنين، ورفع الحواجز عن استقدام العمالة الأجنبية اللازمة لبناء المدن والمناطق العقارية الجديدة، دون مراعاة لأبعاد وتداعيات الخلل السكاني.
وتذكر المعلومات المتاحة أرقاما فلكية يصعب قراءتها وتخيلها حول حجم الاستثمار العقاري المتوقع في دول مجلس التعاون في الوقت الحاضر، والذي بلغ 2 تريليون دولار، منها 700 مليار دولار في الإمارات وحدها. وهذا الحجم من الاستثمار العقاري سوف يتطلب عمالة كثيفة في مرحلة الإنشاء، كما سيتطلب إقامة وافدين جدد يشغّلون هذه العقارات ويشْغلونها.
وجدير بالتأكيد أن تفاقم الخلل السكاني قد حصل بشكل مفاجئ في دول تمتلك فوائض نفطية، وأخرى ليس لديها صادرات معتبره من النفط الخام. وهذا يشير إلى إمكانية وجود استراتيجية واحدة غير معنية بقضية الخلل السكاني، تم تطبيقها في الدول الثلاثة المدروسة، بناء على استشارات قدمتها وخطط وضعتها شركات ومعاهد أجنبية، نظرت إلى هذه البلاد كمشروعات تجارية وليس كدول وطنية عليها واجب بناء الدولة وتأهيل المواطن وتفعيل دور المجتمع وتحقيق التماسك الاجتماعي من خلال عملية تنمية وطنية مستدامة ذات بعد إنساني.. عملية تنمية تكون لصالح أهل المنطقة بأجيالهم المتعاقبة، ويكون دور المواطنين هو الدور الرئيس في قيادتها وتحديد خياراتها. فالتنمية الحميدة هي التي تستهدف صالح المواطنين بالدرجة الأولى، ويكون المواطنون هم عمادها، وما عداها فإنها «تنمية للضياع» والعياذ بالله.