في الوقت الذي تشهد فيه أسواق المال والأسهم في العالم أزمة لا يمكن عملياً التنبؤ بنتائج حدتها حالياً على الصعيد العربي، على الرغم من تصريحات المسؤولين في البنوك أو كبار المسؤولين الرسميين في بلاد نجد والحجاز والجزيرة العربية وفي الخليج العربي وعدد آخر من البلاد العربية، تتركز أنظار العالم على أموال النفط لسد العجز الذي بدأ يجرف الكثير من المؤسسات المصرفية وغيرها في أوروبا وفي أمريكا وبشكل عام في كل البلاد التي ربطت مصير نقدها وسياستها الاقتصادية بالدولار الأمريكي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وصولاً إلى استراليا في بداية ثمانينات ذلك القرن. حيث نجد أولئك المسؤولين يقللون من أهمية تأثير الأزمة المالية العالمية على الاستثمارات العربية والأجنبية في بلدانهم.
فبعد تفاقم أزمة المال في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ بدايات أيلول/سبتمبر الماضي بعد إعلان بنك "ليمان براذرز" رابع أكبر بنوك أميركا إفلاسه، تطالعنا الأنباء عن تسارع البنوك المركزية في العالم إلى ضخ المزيد من الأموال في البنوك التجارية، دون أن يكشف أي خبير اقتصادي عن أهمية ومدى التغطية لهذه الأموال الورقية التي لا تعني عملياً سوى محاولة إنقاذ ظاهري لأزمة لن تنتهي فصولها في المدى المنظور، بل تؤشر إلى أزمة ركود اقتصادي عالمية ستجرف مدخرات كل فقراء ومتوسطي الدخل خاصة المتقاعدين! وقد أشار الزعيم الليبي معمر القذافي خلال لقائه عدداً من المفكرين وعلماء النـظريات والإستراتيجيات على مستوى العالم الأسبوع الماضي إلى خطورة ضخ المال الورقي الذي لا تغطيه له، بمعنى أنه لا قيمة ذهبية أو عقارية مادية له. وقد ذكر البروفسور "دي سوتو" في مؤتمر صحفي بعد لقاء القذافي: "كان شيئا هاماً لي أن أشارك في هذا الحوار لأن العالم في الشمال مثل أوروبا وأمريكا لا يفكرون بشيء آخر هذه الأيام سوى الأزمة المالية العالمية. وقد سمعنا أن ما يسمى المشاكل المالية في المصارف الغربية كلها تعادل إنتاج العالم كله لمدة سنة ويعني ذلك أن حجم المشكلة يتعدى قدرة جميع دول العالم".
مما تقدم يجد المتابع لمجريات تداعيات أزمة الانهيار الاقتصادي العالمي التي عصفت بأسواق العالم بسبب انهيار سوق الرهن العقاري في الولايات الأمريكية المتحدة، وهبوط البورصات إلى مستويات غير متوقعة، ما دفع إلى هبوط أسعار النفط إلى حوالي ستين دولاراً للبرميل من مستويات قياسية قاربت 150 دولاراً في يوليو/تموز الماضي، وعلى الرغم من ذلك لازال سعر ليتر البنزين مرتفعاً في الدول الغربية – حوالي الدولار والنصف لليتر الواحد ومنها استراليا. من هنا سارع رئيس وزراء بريطانيا غوردون براون إلى بلاد النفط في محاولة منه لجلب أكثر من 12 مليار دولار بشكل عاجل وأولي لتغطية أزمة أمول "صندوق النقد والبنك الدوليين" المرتهنين أساساً لقوى إدارة الشر العالمية الأمريكية، مع أن "صندوق النقد الدولي" يعلن أنه سيقدم مساعدات للدول المتضررة من الأزمة الدولية وأول دولة سيقدم لها المساعدات هي "أيسلند" بمعنى آخر أن الأموال هذه ستذهب إلى جيوب الغرب، وفي تقديري أن أنظمة الزفت والقار الأسود في الجزيرة العربية أو في الخليج العربي لن يخيبوا ظن براون، ولا ظن محافل الشر الدولية، لأن معظم أموال النفط أساساً هي تحت سيطرة تلك المحافل.
ولكي نتفهم خطورة تلك الأزمة العالمية لا بد من قراءة لبعض تصريحات الخبراء التي أعلنت في بعض وسائل الإعلام دون أن يشعر بمداها المواطن العادي في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج. ففي تصريح للدكتور محمد عبد الفضيل أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة أشار فيه إلى "أن البنوك المركزية عادة ما تستثمر في أوعية مضمونة منها السندات الحكومية، لكن الاستثمارات الخاصة تذهب إلى أوعية عالية المخاطر وهو ما يجعلها عرضة لتقلبات أسواق المال".
وتوقع عبد الفضيل "أن يكون للأزمة الحالية تأثيرات كبيرة على فوائض الأموال العربية في الأسواق الخارجية".
ومن جانبه قال ممدوح الولي نائب مدير تحرير صحيفة "الأهرام" المصرية "أنه بحسب قوانين البنوك المركزية فإنه يجب أن يتم الإفصاح عن حجم استثماراتها في الخارج لكن في غياب الشفافية لا أحد يعلن عن حجم استثماراته في العالم العربي".
وذكر الولي في تصريح "للجزيرة نت" "إن لأزمة المال العالمية أبعاد ثلاثة فيما يتعلق بالعالم العربي. يتعلق البعد الأول بإيداعات البنوك العربية، حيث تتجه دائماً البنوك بشكل عام إلى إيداع الأموال في البنوك العالمية لتنويع المخاطر، وهو ما يعرضها للأزمة الحالية، أما البعد الثاني فيتعلق بالاستثمار في أوراق مالية في البنوك الأجنبية وشراء شهادات إيداع دولية، ما يعرضها أيضا إلى الانخفاض في مثل الأزمة الحالية، إضافة إلى الاستعانة بالبنوك الأجنبية لتكون أداة وصل ببنوك أخرى في الخارج ما يجعل ذلك بعدا ثالثاً.
وفي إشارة إلى مدى تأثر البورصات العربية بالأزمة الحالية قال الولي "إنها تشهد منذ بدء أزمة المال، خروجا للمستثمرين الأجانب الذين يبحثون عن تنويع أوعيتهم الاستثمارية في الخارج لتقليل حجم المخاطر."
وقال الولي "أن البورصات العربية لم تشهد في السابق معدلات انخفاض بالحجم الذي تشهده الآن بسبب خروج هؤلاء المستثمرين حيث وصل المعدل في بعض البورصات إلى 15% وهي نسبة لم تحدث من قبل."
هذا ما أعلن في مصر، ولكن ماذا عن باقي البلاد العربية؟ خبراء الاقتصاد في لبنان يزعمون أن سوق المال والعقارات في لبنان لن يتأثرا في تلك الأزمة، وكذلك بعض الاقتصاديين في سوريا والأردن ذكروا أن بلادهم لن تتأثر جراء هذه الأزمة. وكذلك تنطح بعض الخبراء والمحللين الاقتصاديين كما يزعمون واجهة الفضائيات ليعلنوا بكلام غير مفهوم وغير واضح كالعادة، ودون ذكر لأرقام الأموال العربية المندلقة في بنوك الغرب وحدائق حيوانات لندن كما في بعض البلاد الأوروبية الأخرى وفنادق كندا وملاهي لوس أنجلوس وفي استراليا وفي أمريكا، وفي هذا ربما نعذرهم لأنهم حقيقة لا يعرفون عن ذلك شيئاً، ولكن هل يخفى عن الباحث النزيه معرفة حجم الأموال العربية الحكومية أو الخاصة المستثمرة في الأسواق الغربية.؟ فهناك العديد من الدراسات تشير إلى أنها تتراوح ما بين 400 مليار و1,200 ترليون دولار أمريكي في بعض الدول الأوروبية وأمريكا. وفي هذا الصدد أشار مختار الدبابي في تحليل له نشر في صحيفة "العرب" التي تصدر في لندن في نهاية شهر تشرين الثاني/أكتوبر 2007 تحت عنوان "الأموال العربية تنام في البنوك الغربية" إلى أن ديون الدول العربية بلغت (560) مليار دولار ما بين خارجية وداخلية بينما "نجد أن الاستثمارات العربية في الخارج تفوق التريليون دولار وبشكل تصاعدي".
وأضاف الدبابي "ليس هناك أرقام أو إحصائيات دقيقة حول الأموال العربية المهاجرة، ولكن هناك بحوث اقتصادية عربية تقدم أرقاماً تقريبية تقول إن حجم هذه الأموال يتجاوز تريليون دولار بقليل، فيما تقدر هيئات أخرى حجم الأموال الخليجية المهاجرة في الخارج فقط بنحو (1.4) تريليون دولار، بينها (750) مليار دولار سعودية، حوالي (450) مليار دولار منها تستثمر في الولايات المتحدة، و(255) مليار دولار في أوروبا، وكانت المؤسسة العربية لضمان الاستثمار في الكويت قد ذكرت في تقرير لها أواخر العام 2004 أن حجم الثروات العربية في الخارج بلغ نحو (1.4) تريليون دولار، كان نصيب دول مجلس التعاون الخليجي من هذه الثروات يتراوح بين (800) مليار وتريليون دولار".!!
ويقول مختار الدبابي: "وفيما يقول المتشائمون إن تلك الأموال تذهب بقرار سياسي إلى البنوك الغربية وخاصة الأمريكية لتساهم في تقوية وضع أسواق الدول التي تقف ضد قضايانا القومية وتحولنا إلى أسواق استهلاكية جذابة وترتهن تطور اقتصادياتنا وعملاتنا وتجعلنا دائما سلة لإنتاجاتها وحتى أزماتها "أزمة الدولار الحالية التي تضع الأسواق الخليجية على كف عفريت"، فإن الحقائق على الأرض تقول إن واقع العرب الاقتصادي والإداري لا يتحمل تكدس أموال النفط بأحجام كبيرة تماماً مثلما يعجز عن تقبل الكفاءات والأدمغة".!!
في المقابل نجد أن أغلب الأموال المستثمرة حالياً في بلاد الحليج العربي إنما مسيطر عليها من قبل الشركات العابرة للقارات، وهذه الشركات عملياً معروف من يسيطر عليها ويديرها ولا حاجة لتأكيد ذلك لأن الباحث النزيه يمكن له بسهولة معرفتهم، خاصة وأن أكثر من ملياردير من بلاد نجد والحجاز ودول مصالحات الخليج العربي قد ذكر أنهم لا يعرفون كيف يستثمرون تلك الأموال…!
السوق العربية المشتركة والوحدة الاقتصادية العربية
منذ حوالي العقدين نسمع بين فترة وأخرى عما يسمونه السوق العربية المشتركة ووحدة الاقتصاد العربي ووحدة النقد العربي وما على هنالك من تسميات. السؤال الذي يطرح نفسه هنا وببديهية لماذا لم يتم حتى الآن تحقيق أي منها؟!
المتابع لمجريات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج، يجد أن هناك اختلافات متفاوتة في الجوانب الاقتصادية في البلاد العربية ومنها بالطبع دول الخليج العربي العائمة على النفط، والجزائر الغنية بالغاز والنفط، وليبيا الغنية بالنفط والماء، التي لا يمكن أن يقارن دخلها الاقتصادي بدول مثل الصومال أو لبنان أو الأردن على سبيل المثال، وبالتالي إذا حدث أي اتحاد اقتصادي بين البلاد العربية فأن فقر هذه الدول مثلاً سيؤثر على دخل حكام بلاد نجد والحجاز كما على حكام البلاد العائمة على بحيرات النفط في الخليج العربي..
من هنا نجد أن حكام بلاد النفط والزفت المتحكمة بالبترودولار لا ولن تقبل عملياً بربط اقتصادهم باقتصاد الدول التي لا يوجد فيها نفط، كما يرفضون وضع أموالهم في البنوك العربية، على الرغم من تبرعهم بفتات بعض الدولارات وبشروط محددة لأغراض سياسية مثلما حدث مع لبنان مؤخراً مثلاً.
وبمقارنة سريعة نجد أن هناك دول تنتج صناعات مثل مصر وسوريا، وهناك بلاد تملك نتاج زراعي يكفي كل البلاد العربية مثل السودان وتونس ولبنان، على الرغم من ردم معظم الأراضي الصالحة للزراعة في لبنان من أجل البناء والتمدد السكاني، فأنه يمكن القول أن هذه الدول تستطيع أن تقدّم منتجات صناعية وزراعية مقابل أموال دول النفط في أسوأ الأحوال، ولكن ماذا تستطيع أن تعطيه دول مثل الصومال وموريتانيا؟؟ على الرغم مما يقال بأن الصومال غني باليورانيوم والذهب وأن موريتانيا غنية أرضها بالذهب ولكن عملياً لم يظهر من ذلك حتى الآن شيئاً، وهو أحد الأسباب التي دعت أمريكا لمحاولة السيطرة واحتلال الصومال، فحتى يحدث الاندماج الاقتصادي بين البلاد العربية يجب أولاً حل مشاكل الفقر، والبطالة والأهم هو اقتناع حكام تلك البلاد بأنه في الاتحاد قوة سياسية واقتصادية، وريثما يتم الاقتناع فأننا نحتاج إلى قرون من الزمن.
وللتاريخ فقط، أذكر كلمة للرئيس الشهيد صدام حسين في القمة الرابعة لدول (مجلس التعاون العربي) الذي أعلن عن ولادته رسمياَ في بغداد في اليوم السادس عشر من شباط/فبراير 1989، والذي ضم كل من العراق والأردن واليمن ومصر، والذي انتهى بانضمام مصر إلى "تحالف" قوى الشر الثلاثيني عام 1990 ضد العراق، فقد طالب الشهيد صدام حسين في كلمة له في الأردن بتحويل الأموال العربية من البنوك الأمريكية والغربية إلى الاتحاد السوفياتي "سابقاً" من أجل دعم صموده الاقتصادي مقابل الضغوط الاقتصادية قبل أن تؤدي إلى انفراط الاتحاد السوفياتي وتفكك دوله، كي يبقى قوة عظمى في مواجهة قوى الرأسمالية الغربية.. ولكن كلمته ذهبت كما ذهب العراق أدراج الرياح، بفعل التواطوء الرسمي العربي..
وللتاريخ فقط أذكر بأن العراق بقيادته الوطنية قبل الغزو والاحتلال كان البلد العربي الوحيد الذي لم يكن مديناً لـ"صندوق النقد والبنك الدوليين"، كما أنه البلد العربي الوحيد الذي بدأ عام 1991 بالتعامل باليورو رسمياً ورفض ربط عملته الوطنية بالدولار الأمريكي. وحالياً لا يوجد سوى بلد عربي واحد تحوّل إلى اليورو في التعامل الرسمي اقتصادياً هو سوريا، أما باقي البلاد العربية ودون استثناء ربطت مع الأسف عملتها بالدولار الأمريكي، وهذا سيؤثر عليها إن عاجلاً أو آجلاً، وكي لا أطيل في هذا الموضوع أقول أنه بعد ستة أشهر من الآن سنسمع صراخ تلك الدول وعويلها واللطم وإن غداً لناظره قريب.
28/10/2008