محمود القصاب
منذ بداية الأزمة قبل عامين، وغياب مبادرات الحل السياسي، ظلت هناك دائماً تساؤلات تؤرّق كل الخيّرين في هذا البلد مثل: لماذا الإصرار على تحويل شعب البحرين الواحد إلى فئتين متنابذتين وجهتين متناحرتين؟ ولمصلحة من يتم تغييب المعالجات السياسية، وتعميم منطق القوة والخيار الأمني المصحوب بالمداهمات والاعتقالات، والاعتداءات على حرمات الناس ومنازلهم وممتلكاتهم؟
واليوم في ظل جمود وتعثر مسار الحوار القائم تبرز تساؤلات أخرى إضافية مشحونة بالقلق حول مجريات هذا الحوار والنتائج المتوقعة منه والمآلات التي يمكن أن ينتهي إليها، وانعكاس ذلك على الأزمة الراهنة، خصوصاً إذا ما اصطدم المتحاورون بحائط مسدود، وتوصلوا إلى قناعات ليست في صالح الحوار، كما توحي بذلك كل المؤشرات والمعطيات لسير الجلسات، حيث يغلب عليها المهاترات الإعلامية والتشكيك في النوايا والمراوحة في دائرة السجالات العقيمة، والمناكفات السقيمة لقوى المعارضة من قبل طرف الحكومة و»توابعها»، إذ لم يؤكد هذا الطرف حتى الآن صدق توجهه وحسن نواياه، وما إذا كان يبحث حقاً عن حلول أم انه يريد فقط احتواء وإحراج المعارضة. فقد مرت أكثر من ثلاثة شهور، وانقضت ثمانية عشر جلسة عامة وثلاث جلسات مصغرة، والحصيلة لازالت تقارب العدم، وهو الشيء الوحيد الذي تتفق عليه كل الأطراف المشاركة، الأمر الذي يؤكد أن هناك من يدفع بطاولة الحوار دفعاً إلى هذا الجدار المسدود، سواءً من داخل الطاولة أو خارجها، لأن هذا الهدف يخدم استراتيجيته التي تقوم على تكريس الواقع القائم وصدّ أية محاولة لطرح مبادرات جادة أو خيارات سياسية حقيقية وفعالة كما تطالب به القوى السياسية المعارضة. فهذه الأخيرة لا يمكن لها أن تقبل بأن يُفرض عليها خياران لا ثالث لهما، أما القبول باستمرار الواقع بكل مرارته ومظالمه السياسية والاجتماعية، أو الدخول في حوارٍ عقيمٍ غير قادر على تغيير هذا الواقع وإصلاح مكامن الخلل فيه. كما أن المعارضة تدرك جيداً أنه ليس هناك أية قيمة لأي مكسب سياسي صغر أو كبر طالما أنه يتأسس على تلاشي أو غياب حقوق الناس العادلة والمشروعة.
ومن المؤكد أن الأطراف المقابلة تعرف جيداً أن المعارضة الوطنية تمتلك إرادتها السياسية، وأنه لا يمكن لهذه الإرادة أن تخضع أو ترتهن إلى أي نوع من أنواع الابتزاز السياسي مهما كان مصدره، لذلك كان استمراء واستسهال الكذب على الإعلام والافتراء على المعارضة وإطلاق «الفقاعات» الهوائية، مثل التهديد بالدخول «عنوة» في جدول الأعمال، ومحاولات الالتفاف على آليات الحوار التي اقترحتها المعارضة. إن كل هذا لن يغيّر من الحقيقة شيئاً، وكل هذه «التخرصات الكلامية» و«السقطات الإعلامية» لن تسعف نوايا أصحابها ومحاولاتهم تخريب الحوار وإجبار المعارضة على الانسحاب، فقد باتت اللعبة مكشوفةً، وما تعجز الألسنة عن البوح به تفضحه مثل تلك الزلات المتكررة والمقصودة، والقابعة في الوجدان. لذلك فإن المعارضة السياسية اعتادت مثل هذه السلوكيات من أولئك البعض الذين ينهزمون أمام عدسات التلفزيون، وأضواء الكاميرات التي تخطف أبصارهم وتسلبهم الحكمة والاتزان.
والواقع ان مثل هذه التصريحات في الوقت الذي تكشف عن حجم الخواء الفكري ومدى الجهل السياسي، فإنها في الوقت ذاته تؤكد طبيعة العقلية الاستبدادية والتسلطية التي تغذي مواقف هؤلاء، وتتحكم في خطابهم المليء بالتعالي والعنجهية الفارغة، بالإضافة إلى أنها تؤشر إلى طريقة تعاطيهم مع قضية الحوار برمته والأهداف المبتغاة منه، والذي لا ترى فيه سوى فرصة لهزيمة واستسلام الطرف المقابل واستئصاله، دون أية مراعاة أو احترام لآداب الحوار وأخلاقياته.
ليس خافياً حجم تضارب آراء المواطنين وتباين مواقفهم ووجهات نظرهم من مسألة الحوار الجاري بهيكلته الراهنة، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج، فهناك حتماً من يرى بأنه لا جدوى من هكذا حوار طالما بقيت «النزعة الإعلامية» هي المتحكمة والموجهة له، فقد يكون ما يصل إلى الإعلام مهم، ولكن ما يجب أن يصل إلى الناس هو الأهم، حتى يقتنعوا بأن الحوار يمكن أن يحقّق بعض ما يطمحون إليه من تغيير وإصلاح. وعليه فإن وجهة النظر هذه ترى بأن أية تنازلات شكلية أو محدودة، يمكن أن تقدّمها السلطة، سوف لن تكون كافيةً أو قادرةً على تجاوز ما خلّفته الأزمة من تداعيات سلبية على العديد من المستويات، وبصورةٍ خاصةٍ على مستوى الوحدة الوطنية التي تمّ الزجّ بها «عنوةً» في أتون التجاذبات الطائفية لحسابات قصيرة النظر. والحديث هنا عن «التنازلات» هو حديثٌ مجازيٌ، وفي الواقع إن ما تقدمه الدولة ليس تنازلاً إنما هي حقوقٌ للناس جرى تأخيرها ومصادرتها لعقود طويلة، وتقديمها اليوم يضمن للسلطة قبل غيرها استقراراً سياسياً، ويمنحها قوةً وشرعيةً هي بحاجة إليهما.
واستطراداً مع هذا الرأي فإن أي مكسب يمكن أن تخرج به القوى السياسية سيكون مكسباً هامشياً لا يرقى إلى مستوى الأضرار التي لحقت بالوضع البحريني بكل مقوماته المجتمعية، بالتالي سيكون من الصعب تمرير أي حل سياسي لا يعالج كل المظلمات السياسية والاجتماعية التي أخرجت الناس إلى الشارع، وجرى ترسيخها بصورة أشد وأقسى بعد الأزمة، أو إذا كان هذا (الحل) لا يتناسب مع حجم التضحيات التي قدّمها الناس وطالت أرواحهم وأرزاقهم ومعتقداتهم وكرامتهم، وطالت أيضاً مستقبل عوائلهم.
وليس من قبيل المبالغة القول أن مثل هذه التصورات والرؤى تستبطن في بعض جوانبها بعض العتب واللوم على قوى المعارضة، وربما تحمل في ثناياها بعض التحريض لها للثبات على المواقف المعلنة بالتمسك برؤيتها للحل السياسي، وعدم تقديم أي تنازل دون السقف المعلن والذي لا يوجد دونه سوى الرضوخ والتسليم بمنطق السلطة والقبول بما تتعطف به على الشعب، وهو ما يعني ضياع الحقوق والتضحيات دون ثمن يذكر. وهنا على الذين يجادلون حول فكرة الاستفتاء على مخرجات الحوار الذي تطالب به المعارضة، أن يتوقفوا ملياً عند هذه النقطة ليعرفوا معنى وقيمة المشروعية التي يمكن أن تنالها هذه المخرجات في ظلّ التعقيدات التي تلقي بظلالها وأثقالها على المتحاورين والراغبين في استمرار الحوار ونجاحه.
في مقابل وجهة النظر هذه، هناك من ينظر إلى «الحوار» بعين مغايرة، ويرى في الرؤية السابقة غياباً للموضوعية وللواقعية السياسية، لأنها تتسم بالحدة والتشدد، وإنها تفتقر إلى المنطق السياسي، الذي هو في نهاية المطاف منطق التفاوض وتقديم التنازلات المتبادلة من جانب كل أطراف الحوار، والسير باتجاهٍ متوازنٍ للالتقاء عند منتصف الطريق، ومن دون ذلك لا يوجد شيء اسمه «حوار» أو «تفاوض». كما أنه لا سبيل لوقف الانحدار في الوضع السياسي والاجتماعي والأمني والحيلولة دون تفاقمه والدفع به إلى مهاوي الاحتراب الأهلي، سوى طريق الحوار.
مع عدم إغفال أو تجاهل حقيقة أن هناك قوى وأطرافاً ليس من مصلحتها الخروج من هذا الحوار بأية نتائج إيجابية يمكن أن تقود فعلاً إلى إحداث تغيير سياسي أو ديمقراطي، يستجيب لتطلعات ومطالب شعب البحرين المشروعة، بل على العكس فإن ما تؤكده الأحداث والتطورات، أن هذه الأطراف المعاندة للإصلاح والتغيير، ومن يمثلها داخل الحوار، تدفع في اتجاه تصعيد التوترات الأمنية، وتأجيج الخلافات واصطناعها «عنوة» من أجل تعميق حدّة الاستقطاب السياسي والطائفي وتغذيته بعوامل الديمومة والاستمرار، لذلك هي تعمل على تحويل مناقشات الحوار إلى مزايدات، وتسعى بكل السبل إلى تحقيق مكاسب إعلامية، تتجاوز المصلحة العليا للبلد، لحساب مصالح شخصية وفئوية ومذهبية بحتة، مستغلةً الظروف الإقليمية في المنطقة للرقص على طبول الحرب «الشيعية-السنية» التي يبشّر بها بعض الجهلة والموتورين من دعاة الفتنة والتكفيريين.
عند هذا المنعطف تكون وحدتنا الوطنية أمام امتحان صعب ومفصلي، وكل عناصر قوتها ومقومات استمرارها تصبح على المحك، ويكون مصير الوطن كله متوقفاً على هذه المسألة الحيوية والجوهرية، والتي يجب أن تكون في صلب اهتمام كل المتحاورين مهما تباعدت درجة الخلافات السياسية بينهم. بمعنى أن يكون الحوار مدخلاً مهماً لتصليب وتقوية عود هذه الوحدة، لا زيادة الشرخ فيها، وأن يقوم هذا الحوار بإرسال رسائل إيجابية تبعث على الاطمئنان، وتدفع إلى الهدوء والتهدئة، فهذه إحدى المهمات العاجلة للمتحاورين التي لا تحتمل أي تأخير أو تسويف.