محمود القصاب
تنطلق هذه المقالة من فرضيتين أساسيتين الأولى تقول: إن الأجواء التي سادت أو ترافقت مع انعقاد مؤتمر «حوار المنامة» في مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، كانت أجواء ضاغطة على كل القوى المعنية بالوضع السياسي في البلاد، وخصوصاً على الدولة، نظراً إلى مركزية دورها في الأزمة الراهنة، والمدى المقلق الذي وصلت إليه. وقد كانت كل الضغوط تصب في اتجاه اجتراح الحلول والبحث عن صيغ حوارية توافقية مبتكرة، على أمل الإمساك بنقطة ضوء وسط هذه العتمة السياسية والاجتماعية التي تلف البلاد، حيث التصعيد الأمني وارتفاع وتيرة العنف المفرط والممنهج ضد الناس وهم آمنون في بيوتهم وقراهم.
ضمن هذا السياق؛ يمكن وضع أو تفسير دعوات المسئولين المتكررة عن مسألة «الحوار» وتلك التي سبقتها لبعض الدول الصديقة والحليفة للدولة، وما أعقبها من تأكيدات لقوى المعارضة المرحبة بهذه الدعوات وردود الفعل الغاضبة لبعض المأزومين الرافضين للحوار، الأمر الذي ساهم في زيادة التكهنات بأن المشهد السياسي يوحي بوجود تحركات خفية غير معلنة لم يحن أوان خروجها إلى السطح بعد.
الملاحظ هنا أنه باستثناء تصريحات سمو ولي العهد الواضحة والصريحة عن الدعوة إلى الحوار «والتمسك بالتحول الديمقراطي والدولة المدنية»؛ فإن التصريحات الأخرى الصادرة عن مسئولين آخرين والعناوين التي تحملها تلك التصريحات يشوبها الكثير من الغموض والمواربة السياسية التي تستبطن سهولة التنصل من الالتزامات التي تفرضها، والاستحقاقات التي تستوجبها. بمعنى أن بعض تلك التصريحات تدخل في نطاق التلاعب اللفظي الذي لا علاقة له باللغة السياسية المعروفة، وهو ما يفتح الباب على كل التأويلات والظنون في نوايا وجدية الدولة من هذه المسألة الحيوية والضرورية.
فهناك تصريح رسمي يقول إنه ليس هناك ما يمنع من وجود حوار، وإن الباب مفتوح، وإنه يوجد التزام حقيقي أو نصيحة من جانب الحكومة لمختلف الأطراف بأن الحوار هو طريق لحل أية مشكلة أو خلاف. وهناك تصريح رسمي آخر يقول إن المصالحة تحتاج إلى كسر الجليد بين الأطراف وإن «المصالحة» قد تبدأ، وليس بالتحديد على مستوى الحكومي، وربما من خلال اجتماعات في مؤسسة بحثية عن قضايا عامة مثل حقوق الإنسان، ناهيك عن تلك التصريحات غير المتزنة التي درجت على كيل الاتهامات للمعارضة من دون وجه حق.
إن مثل هذه التصريحات وغيرها الكثير، التي تحاول القول إن جوهر الأزمة يكمن في الخلاف بين بعض القوى والأطراف السياسية والمجتمعية، وإن دور الدولة هو مجرد التقريب بين هذه الأطراف وتهيئة سبل الالتقاء والتحاور فيما بينها… مثل هذه التصريحات في ظل الأزمة الراهنة المعروفة بحدتها وانغلاقها على الحل كما تعبِّر عن نفسها، والتي هي حصيلة ومآل سياسات وإجراءات مسئولة عنها الدولة وحدها؛ لا ينفع معها مثل هذا الخطاب السياسي المشوش الذي يضاعف الشكوك ويزيد من حالة انعدام الثقة، وتأجيل ما هو أسوأ، بدلاً من وضع الأزمة على سكة الحل العاجل.
أما الفرضية الثانية فإنها تقول: إن أية خطوة جادة باتجاه الحوار والتوافق تفترض من الدولة وجميع القوى السياسية التحلي بالشجاعة والمسئولية الوطنية والأخلاقية في تسليط الضوء على كل الزوايا المظلمة في البلاد، السياسية منها والاجتماعية والأمنية التي كانت وراء تفجر الأزمة الراهنة.
وهو ما يعني أن نتائج أو حصيلة أي حوار يجب أن تعالج هذه المظالم، ومن ثم البدء في إعادة بناء الدولة وفق أسس جديدة تقوم على الإنصاف والعدالة والمواطنة الدستورية والديمقراطية الحقيقية.
ولكي تكون الانطلاقة صحيحة وسليمة؛ فإن الدولة مطالبة باتخاذ العديد من الخطوات؛ أولاها: أن تتزحزح الدولة عن مواقفها المتصلبة وتتجه إلى المصالحة مع شعبها، بدل أن تقمعه بالقوة لأنه خرج إلى الشارع مطالباً بالإصلاح والمشاركة السياسية، ردّاً على تلك العقود التي عانى خلالها من الإقصاء والتهميش والحرمان السياسي والاجتماعي.
والخطوة الثانية، وقف سياسة الانتقام أو «الحقد» كموجّه للسياسات والقرارات بالصورة الفظيعة والمفزعة التي رأيناها ابان الأزمة وما أفرزته من تداعيات. فلم يعد خافياً أن الكثير من تلك القرارات التي طالت المواطنين تعد من الكبائر والخطايا السياسية الكبرى.
هذا يعني أن أقصر الطرق للحوار هو طريق مقاربة الملفات السياسية الحقوقية والاجتماعية مقاربةً عقلانيةً وموضوعيةً، تسمح بإعادة صياغة الكثير من الأجهزة الرسمية والمؤسسات في الدولة وفق مصلحة البلد ومشاركة كل المكونات والأطياف السياسية والاجتماعية، أي لابد من التوجه الجاد لإحداث تغيير جوهري في الواقع السياسي المثقل بالفساد وغياب الديمقراطية، لأن أي تقدم أو نهوض للبلد؛ بات مرتبطاً بصورة قاطعة وجلية بما يمكن إحداثه من تغيير أساسه العدالة وسلطة القانون وتعزيز الحريات الشخصية والعامة، على طريق بناء الدولة الديمقراطية المدنية التي تحترم التعددية وتصون حقوق كل المكونات والأطياف في المجتمع دون تمييز أو إقصاء لدوافع سياسية أو مذهبية.
والشيء المؤكد الذي يجب أن يكون حاضراً هنا، ولا يغيب عن إدراك الجميع وسط غبار الاستقطابات السياسية والطائفية الحادة، هو أن مثل هذا الوضع الجديد الذي ننشده، والتجديد في المشهد السياسي سيتطلب بعض القرارات الصعبة غير المألوفة. وحتماً ستكون هناك بعض التنازلات والإجراءات القاسية؛ لأن هذا هو شأن وجوهر أي إصلاح سياسي أو اجتماعي. وسيكون هناك دائماً رفضٌ أو مقاومةٌ من بعض الفئات التي لم تكن تتصور أن صلاحياتها قد انتهت، وأنها ستغادر المشهد السياسي بعد أن كرست نفوذها وعززت مصالحها ومكاسبها، في ظل أوضاع مضطربة سياسيّاً وأمنيّاً، واختلال في ميزان العدالة وحماية منظومة سياسية واجتماعية داعمة للفساد والاستبداد.
لذلك ليس مستغرباً أن هذه الفئات والعناصر هي من تعامل مع الحراك الشعبي السلمي بتلك الصورة العدائية والعدوانية غير المسبوقة التي رأيناها، لأنه أزاح الستار عن واقع المجتمع البحريني بكل ما يحويه من علل وأمراض سياسية واجتماعية، كانت نتاج سلوكها غير الرشيد، كذلك هي من رفض مقاربة هذا الحراك الوطني من منظار الربيع العربي، على رغم أن المطالب هي ذاتها المتعلقة بالحريات والديمقراطية وتحسين شروط العيش والكرامة الإنسانية. وهي من روّج لـ «كذبة الانقلاب» المزعوم، وبالتالي انحدار خطابها السياسي والإعلامي إلى مستوى حاد من العنف اللفظي والتحريضي ضد قوى المعارضة السياسية، واعتماد أسلوب التعبئة الطائفية والكراهية السياسية ضد شركاء الوطن. فقد بات في نظر هذه العناصر كل معارض «عميل» أو «خائن»، ما زاد من تصاعد التهديدات للسّلم الاجتماعي وانزلاق البلد نحو الفتنة الطائفية.
من هنا إذا ما قُدّر لنا أن نتوجه هذه المرة إلى طاولة الحوار من جديد بعد تهيئة أسباب وظروف نجاحه؛ فإن الجميع مطالَبٌ بإعادة الاعتبار إلى القيم والمبادئ الأخلاقية في العمل السياسي التي عصف بها «تسونامي» الطائفية الذي اجتاح عقول ونفوس الكثير من الفاعلين السياسيين، ودمّر جهاز المناعة الوطنية لديهم، وساهم بالتالي في شيوع حالةٍ من عدم الاطمئنان وانعدام الثقة والتوجس من المواقف والسلوكيات عند كل الأطراف.
وهذا ما يفرض علينا العمل باتجاه مداواة جراح بعضنا بعضاً من كل تلك العلل والمخاوف السياسية؛ لأن استمرار هذه المخاوف يعني استمرار الخصومات والقطيعة التي ستكون مقبرة أي حوار قادم مهما خلصت النوايا.
أما أسس الحوار ومبادئه والأرضية التي يجب أن ينطلق منها؛ فسنحاول تناولها بشيء من التفصيل في مقالة قادمة إن شاء الله.