عمر الشهابي
مدير مركز الخليج لسياسات التنمية
وماذا بعد؟ ما العمل عندما نرى أمام أعيننا مدننا تتحوّل إلى سلع بالإمكان المتاجرة بكل مقوماتها، بما فيها سكانها؟ ما الحل عندما تقاس أهمية ومقدار الأرض فقط بالسعر الذي بإمكانها كسبه في الأسواق العقارية، وحين يتحوّل الحي إلى مجرد حفنة من العمارات والدكاكين التي يتم تشييدها للربح السريع على حطام البيوت التاريخية؟ وحين يتحوّل أغلب سكان المدينة إلى رحّالة مهمّشين، غير مسموح لهم بإرساء أي جذور في المدينة، حيث تصبح المدينة غريبةً وموحشةً حتى على من سكنها طيلة حياته؟
ما العمل حين نجد بالكاد أية مناطق عامة تجمع مختلف الناس، وتصبح نقطة التقائهم الرئيسية هي المجمع التجاري (المول)، أو عندما تتقاطع سياراتهم في الشارع، فلا يوقفهم للحوار إلا لولا قدّر الله وارتطموا في حادث؟ ما العمل عندما تعيش أغلب فئات المجتمع في معزل عن البقية، حيث يتقسم المجتمع إلى كانتونات طبقية، تعيشها طوائف وإثنيات مختلفة في كثير من الأحيان لا تنطق حتى نفس اللسان؟
هز العام 1968 العالم وغيّر قيمه كلياً، فتفجرت مظاهرات واحتجاجات عمّت أغلب بقاع الأرض، ولهذه السنة مقاربات كثيرة مع الاحتجاجات التي نمر بها في عالمنا العربي حالياً. المطالب في أساسها ركّزت على حقوق المهمّشين والمنسيين في المجتمع، فانفجرت المظاهرات في أميركا احتجاجاً على حرب فيتنام، وكانت حركة الحقوق المدنية المطالبة بالمساواة أمام القانون لجميع الأعراق والأجناس في أوجها. في فرنسا اشتهرت مظاهرات الطلبة المحتجين على الأوضاع في الجامعات، وسرعان ما لحقت بهم النقابات في إضراب عام. الحركة النسائية والمناهضة للعنصرية أيضاً كانت في قمتها. كما تعتبر سنة 1968 مولد الحركة المناصرة للبيئة. كانت المحصلة بأن توجت هذه السنة باحتجاجات عارمة على الوضع القائم أرعبت مراكز القوى التقليدية، وأدت إلى إصلاحات متعددة في محاولة لامتصاص هذا المد الاحتجاجي.
في العام نفسه، وفي خضم الاحتجاجات التي اجتاحت أغلب عواصم العالم، أطلق المفكر الفرنسي هنري ليفيبر صرخته الشهيرة «الحق في المدينة». مثّل «الحق في المدينة» رؤيةً جديدةً تقدميةً تعدّت في مضامينها المفهوم الضيّق المتعارف عليه لحقوق الإنسان. فالحق للمدينة يؤكد في أساسه حق المجتمعات في تقرير ماهية وشكل وسبل استعمال محيطها بنفسها. وبما أن أغلب سكان الكرة الأرضية هم الآن مدنيون، وبما أن المدينة هي المكان الذي يترعرع فيه الإنسان ويقضي أغلب حياته من المولد حتى الدفن، فيتشكل هذا الحق أساساً حول التحكّم في المدينة ومقوماتها وطبيعة الحياة فيها.
على مرّ التاريخ المعاصر، ومنذ اقتحام سجن الباستيل في الثورة الفرنسية العام 1789، انطلقت أغلب الثورات والانتفاضات من المدينة، حيث كانت المدن دعم ووقود الانتفاضات الرئيسية. أغلب مواطني العالم العربي هم من سكّان المدن، ومن الملفت أن في كل الانتفاضات العربية توجّه الناس إلى الأماكن العامة كنقطة التقائهم واحتجاجهم الرئيسية، حتى ولو كانت هذه الأماكن عبارةً عن مفترق طرق للسيارات، مثلما توجّه المحتجون في مصر إلى ميدان التحرير. وكأنما كان المنتفضون يعلنون احتجاجهم على «تسليع» وخصخصة المدينة وتهميش أغلب سكانها، فما كان من المحتجين إلا أن أعلنوا عن خلق مجتمع جديد في ساحة عامة يختارونها، يرَحَّب فيه بكل من كان تواقاً إلى مجتمع جديد، لا تتواجد فيه سلطة ولا متنفذون ولا حواجز تسور الأراضي وتقسّم المجتمع وتمنع الدخول، بل يشارك الجميع فيه بناءً على حقّه في المشاركة في تشكيل مجتمعه ومحيطه.
بالإضافة إلى الانتفاضة على الذل والتهميش ومطالبها بالحرية والكرامة، برأيي أن عاملاً رئيسياً يفسّر الاحتجاجات في العالم العربي وهو الإحساس بالغربة والرفض للمتغيّرات التي اجتاحت البيئة والمساحة والمدينة التي نعيش فيها، خصوصاً أننا مهمّشون بلا دور يُذكر في هذه التغيرات. فالبحر والنخل والعمران وحتى البشر يتغيرون بوتيرة رهيبة، والمطلوب من الناس هو تقبّل هذا الأمر، بل التصفيق والتطبيل له.
في خضم هذه المتغيرات التي جعلت محيط الإنسان يتبدّل بوتيرةٍ يصعب فهمها، حيث حوّلته غريباً في وسط مجتمعه، لم يبقَ إلا الانتفاض على ما يحصل لمحيطه والصراخ بـ «كفى»، والمطالبة بأن يكون الإنسان العنصر الأساسي والفاعل في تشكيل حياته ومحيطه.
الحق في المدينة تقدمي لأنه يطالب بحقوق وتغيّرات جوهرية تتعدى الشكليات. هو لا يطالب فقط بإنشاء مجالس بلدية أو نيابية لا حول لها ولا قوة، بل يطالب بتغيير جذري في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تدير حياة الإنسان ومحيطها.
هو يطالب بإعادة تركيب الوضع الحالي المبني على تحكّم رؤوس الأموال والمتنفذين في جلّ ما يشكّل ويدير المدينة، وهو أيضاً يطالب بأن يكون مواطنو هذه المدن هم أساس من يتخذ القرار. هو أيضاً يدرك بأن مربط الفرس يقع في من يملك الموارد وله أحقية استعمالها، ولذلك يطالب باسترجاع كل الأملاك والأراضي والشواطئ التي استولي عليها ظلماً واستئثاراً، وتحويلها إلى ما يخدم المجتمع عامة.
الحق في المدينة معني بإحياء والحفاظ على أحياء المدن التاريخية، والتي طالما كانت نبض أي مجتمع ومصنع حراكها الوطني، بدلاً من تحويلها إلى سلعةٍ يتم المتاجرة بها ويتحكم بها المتنفذون لبناء حشودٍ لا تنتهي من الشقق والدكاكين التي لا هدف لها سوى الربح السريع.
الجميل في «الحق في المدينة» بأنه ليس حكراً على أحد، بل بإمكانه أن يجمع تحت شعاره ساكني المدن في كل بقاع العالم. وبالفعل فقد أصبح «الحق في المدينة» صرخةً تردّدها تحركات عالمية متعددة، من حملة احتلال «وال ستريت» و»لندن»، إلى حركات تقدمية في أميركا الجنوبية، وصولاً إلى بروز حركة «مشاع» مؤخراً في بيروت. الجميل أيضاً في «الحق في المدينة» أنه لا يعتمد على طائفة أو إثنية، عقيدة أو جنس، بل هو حقٌ يجمع كل من يعيش في هذه المدن، حيث يجمعهم المصير الواحد لأنهم يعيشون في المكان نفسه. بل هو يجمعهم على هدف واحد، وهو حق تقرير ماهية وطبيعة الأرض والمساحة التي نعيش عليها.
قد نكون من طوائف وعقائد وخلفيات مختلفة، ولكن الأرض التي نعيش عليها واحدة، ويجمعنا فيها مصير واحد، وكلما أسرعنا في إدراك ذلك كلما تمكّنا من بناء مجتمع أفضل يربطنا حول وحدة الأرض والمصير.