في خطابه الأخير من على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة كذب الرئيس الأمريكي أوباما مرتين. الكذبة الأولى كانت عبارة عن بكائية حاجة الكيان الصهيوني القصوى، وهو المالك لأقوى جيوش المنطقة وعلى أكثر من مئتي رأس نووي، حاجته لضمان أمنه وسلامة مستوطنيه قبل أي حديث عن قيام أية دولة فلسطينية،
ليتبعها بقصائد المدح والاعتزاز والصداقة الأبدية بين بلاده وكيان الاغتصاب، وبتعابير الحب الذي يسيطر على قلبه وعقله تجاه 'دولة' تحتل أرض الآخرين وتدوس على حقوقهم .
أما الكذبة الثانية ففي سكوته المصم عن فواجع وأحزان وآمال وحقوق الشعب العربي الفلسطيني. وبذا عاش الرئيس الأمريكي قولا مأثورا من 'أن الكذب يمارس بالكلمات وأيضا بالسكوت'.
وبما أن الرئيس الأمريكي، قبل انتخابه، كان أستاذا ومثقفا، وبالتالي قارئا ومتابعا ومدركا للجوانب المأساوية في قضية العصر بلا منازع، قضية اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها ومحو تاريخها، فان خطابه ذلك ينطبق عليه قول الفيلسوف الألماني نيتشه من 'أن أكثر الكذب انتشارا هو الكذب على النفس'.
بالنسبة للذين رحبوا بانتخابه منذ ثلاث سنوات ورأوا فيه إمكانية التمرد والسمو، ولو قليلا، بالحياة السياسية الدولية، مثل ذلك الخطاب فاجعتين: فاجعة البطل الواعد الذي يضيع فرصة العمر، وفاجعة السقوط المذهل لممارسة الثقافة في حقل السياسة.
لقد كانت فرصة تاريخية أمام البروفيسور الأسمر، المنتمي لعوالم التحيزات الظالمة ضد الأعراق ولون البشرة، أن يكون وفيا لخلفيته التاريخية، فيقف مع الضعفاء والمهمشين والمضطهدين مهما كلفه ذلك من عنت ومعارك. لكنه آثر أن يمارس جميع أنواع الانتهازية من أجل أن يبقى في السلطة لدورة انتخابية أخرى، وبدلا من أن يخسر الانتخابات القادمة، ولكنه يكسب نفسه ويفوز بدخول سجلٍ تاريخ القادة العظام، لا على مستوى بلاده فقط وإنما أيضا على مستوى العالم كله.
ولذلك فليس بغريب، وهو الذي فضل إطالة أمد سلطته المؤقتة على الامتداد الفسيح للتاريخ، أن يكذب على العالم وعلى نفسه وذلك من أجل الحصول على دعم أصوات اليهود الصهاينة الأمريكيين في الانتخابات القادمة. ذلك أن الرئيس أوباما ليس معنيا بأن يكتب تاريخ طبيعته ومعدنه وأنبل ما فيه وإنما معني بأن يكتب أطول وأهزل تاريخ لأعماله التي غلبت عليها المساومات والانتهازية وإرضاء من وراء مؤسسات الحكم في بلاده وفي العالم.
أما فاجعة السقوط المذهل لممارسة الثقافة في حقل السياسة فقد عبرت عنها الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية سيمون ويل بقولها 'ان القيم الصادقة والطاهرة، من مثل الحقيقة والجمال والطبيعة، عندما تتمثل في أنشطة الإنسان، فإنها تصدر عن نفس الفعل الواحد'، وبالتالي فغير مقبول أن يفعل الإنسان فعلا فاضلا ثم يتبعه بفعل قبيح غير فاضل. إن الأفعال المتناقضة هنا لا تشير إلى نفس حقيقية للفرد.
ولما كانت الثقافة، من خلال الدٍين والأدب والفلسفة والفنون والعلوم الإنسانية وغيرها، من مكونات الثقافة، تستقي قيمها وفضائلها ومواقفها الأخلاقية، فان الإنسان الذي لا يفعل الأمر نفسه، لا يستطيع أن يدعي أنه ينتمي إلى جماعة المثقفين.
ولقد اعتقدنا منذ ثلاث سنوات، عندما انتخب أوباما، بأننا أمام ظاهرة جديدة في عالم السياسة، وعلى الأخص الأمريكية. وكنا دائما نحزن عندما كنا نرى خذلان الناخب الأمريكي لمثقف تقدمي بارز كأدلاي ستيفنسون في كل انتخاب دخله ذلك الرجل قبل موته. وكنا نعتقد أن الرأي العام الأمريكي هو المسؤول عن ذلك الرفض المحزن لإدخال الثقافة في السياسة.
لكن الشعب الأمريكي قفز فوق خذلانه السابق للثقافة، وفوق تعصباته العنصرية، عندما انتخب الرئيس المثقف والخطيب المفوه أوباما. فماذا كانت النتيجة في هذه المرة؟ لقد خذل المثقف شعبه. لقد خذله في الداخل عندما تنازل عن كثير من الوعود التي قطعها على نفسه بشأن مطالب عادلة، خصوصا للطبقات المعدمة، في حقول الصحة والتعليم والاقتصاد والإسكان وغيرها. ثم خذله في الخارج عندما قاد ممارسة استعمارية عدوانية انتهازية مخادعة، وأحيانا فاجرة، عبر العالم كله، وعلى الأخص في عالم العرب والمسلمين. في قمة ذلك الإخفاق الأخلاقي السياسي الذي قاده ذلك الرجل تكمن بالطبع مأساة شعب مضطهد مظلوم مشتت، وهو الشعب الفلسطيني.
دعنا نذكّر الرئيس أوباما بقول أحدهم من أن الحقيقة موجودة، أما الأكاذيب فهي التي تخترع. إذا كانت ممارسة الأكاذيب عارا على الفرد العادي فإنها عار مضاعف اذا مارسها مُدعي الثقافة والعلم. وهذا ما فعله الرئيس الذي لم يف بأي وعد، فواحسرتاه على الآمال التي بناها العرب والمسلمون.