د / يوسف مكي
قبل خمس سنوات من هذا التاريخ، اندلعت الحركات الاحتجاجية العربية. وكتب الكثير، وقيل الكثير بشأن الأحداث الملحمية التي رافقتها. ووصفت في حينه بـ «الثورات العربية» أحيانًا، وبـ «الربيع العربي»، في أحيان أخرى. وصفها البعض بالعملية الثورية، وقال آخرون إنها تأتي لتستكمل مخطط تفتيت الوطن العربي، إلى دويلات صغيرة. وقد شجع ما آلت إليه الأوضاع في البلدان التي شهدها التغيير، إلى شيوع مقالة المؤامرة.
لا شك أن غالبية النخب العربية، استبشرت خيراً، باندلاع الحركة الاحتجاجية، بعد عدة عقود من الركود، والفشل المتراكم، في حل المعضلات السياسية والاقتصادية التي تعانيها معظم الأقطار العربية.
لكن النتائج المريرة، التي شهدتها معظم تلك البلدان، حتى وإن كانت بنسب مختلفة، حتمت مراجعة الموقف معها. وفي كلتا الحالتين: حالة التأييد المطلق وحالة الرفض، حد اتهام الحراك الشعبي، بأنه ليس سوى مجرد تنفيذ لأجندات خارجية، كان الموقف غارقاً في سطحيته وسذاجته، وكان يحمل رؤية دونية، وتشكيكاً في وعي عشرات الملايين التي خرجت للميادين العربية، رافعة شعار التغيير.
ليس بالإمكان قبول توصيف ما حدث بالوطن العربي، قبل خمس سنوات، والذي تستمر تداعياته معنا حتى يومنا هذا، بالعملية الثورية، وهو أيضًا ليس بالفوضى الغامضة. فالعملية الثورية، ترفض منطق الحراك العفوي. إن لها شروطها، وضمن هذه الشروط وجود القيادة والبرامج والأدوات، والمناخات، وجميعها لم تكن متوافرة في الحراك الشعبي الواسع، الذي وصف تعسفاً بالربيع العربي.
والفوضى الغامضة، التي وصفت أحياناً بالفوضى الخلاقة، وفقاً لتعبير رونالد رامسفيلد وكوندوليزا رايس، هي توصيف مغالط يختزل الحراك الشعبي، بشكل مبتسر، ويحوله إلى مجرد تماه مع مشاريع كونية، تهدف إلى تمزيق الممزق وتفتيت المفتت والأمر أعمق من هذا التبسيط بكثير.
الوضع العربي بشكل عام، وخلال ما يقرب من خمسة عقود، مثقل بأزمات كثيرة. ومرشح دائما، للانفجار في أية لحظة. فهناك أزمات اقتصادية حادة في عدد من الأقطار العربية، وارتفاع في معدلات البطالة والفقر، وعجز عن مقابلة استحقاقات الناس، يقابله تغول للفساد والاستبداد. ولم يكن منطقيّاً أن تستمر الحال على ما هي عليه، إلى ما لا نهاية.
والأنكى هو ترافق الواقع المأساوي العربي، بانعدام وجود أية بوابات للأمل، إذ لم يتم طرح أي مشروع عملي، في أي من البلدان التي شهدتها الحركة الاحتجاجية، يهدف إلى تجاوز الأزمات المستعصية، وإيجاد حلول عملية للخروج من النفق الصعب. لقد غلبت حالة الإنكار، من قبل صناع القرار في تلك البلدان، وساد شعور عام لدى النخب الثقافية، التي غدت رديفة لهذه التركيبة الاجتماعية، بأنه ليس بالإمكان تحقيق أفضل مما كان.
وجود أجندات خارجية، لتفتيت الوطن العربي، لم يعد أمراً خلافيّاً. فقد أشير إليه منذ الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية، حين أشار الرئيس الأميركي هاري ترومان، إلى أن عالم ما بعد الحرب، سيكون مختلفاً جدّاً، وأن المؤسسة البديلة عن عصبة الأمم، المرتقب تدشينها، والتي ستكون تتويجاً لانتصار الحلفاء، ستأخذ في الاعتبار مصالح المظلومين، من أقليات قومية ودينية وطائفية. إن ذلك يتطلب من وجهة نظره إعادة النظر في الخرائط السياسية، التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى، على قاعدة اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور.
لكن اكتشاف الأميركيين للسلاح النووي في الأيام الأخيرة للحرب، والتحاق السوفييت السريع بالنادي النووي، واشتعال الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين: الرأسمالي والاشتراكي خلق حقائق جديدة. فلم يعد بالمقدور الحديث عن حرب مباشرة بين العملاقين. وكان البديل عن ذلك حروب الوكالة. وقد اقتضى ذلك أن يكون الوكلاء على الجانبين، الأميركي والسوفييتي، من القوة العسكرية والسياسية، بحيث يتمكنون من إشعال وإدارة تلك الحروب. ولذلك تأجل الحديث، إلى حين، عن مشروع ترومان، في تقسيم المقسم قرابة ثلاثة عقود، إذ كان هنري كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون لشئون الأمن القومي، عرابه الأول، بعد معركة العبور العام 1973.
وتوالت التقارير الغربية في حينه، مشيرة إلى العراق، كمدماك أول في مشروع إعادة الاعتبار إلى حقوق الأقليات القومية، واتباع الأديان والطوائف الدينية. أشير إلى العراق، كبلد رخو، بسبب لوحته الفسيفسائية، التي تجعل منه كياناً يفتقر إلى التجانس والوحدة.
والسرد في اتجاه أجندات التقسيم طويل ومرير. فمن تصريحات جيمس بيكر في مؤتمر مدريد العام 1990، عن صياغة خريطة سياسية جديدة، أكثر دراماتيكية، من خريطة سايكس – بيكو، إلى خطوط عرض حظر الطيران العراقي، التي فرضها الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، إلى احتلال العراق، وتدشين عملية سياسية على أساس القسمة بين الطوائف والأقليات، إلى الظروف التي أعقبت ما بات يعرف بالربيع العربي، والتي نتج عنها تفكيك أوطان وسقوط دول.
إلا أن ذلك وحده، لم يكن ممكناً التحقيق، لولا الرخاوة التي منيت بها الكيانات العربية، وضعف مقاومة مؤسسات الدولة الوطنية، وقابليتها للتفتيت. لقد فشلت هذه الكيانات في تأسيس دول حديثة، وشكلت مؤسسات الحكم فيها على مقاساتها. فقدت مشروعيتها، منذ عجزت عن حماية أمنها القومي، وتوفير لقمة العيش للمواطن، وفشلت في مواجهة المشروع الصهيوني الغاصب.
وحين انطلقت الحركة الاحتجاجية، كان التجريف السياسي في تلك البلدان كاملاً. ولم يعد من يشكل ثقلاً حقيقيّاً سوى حزب الحكومة، وثقله الاقتصادي، والجيش والمؤسسات الأمنية، والتيارات الإسلامية السياسية، التي عملت على ملء الفراغ، وحاولت استثمار الحراك الشعبي، للقفز إلى سدة الحكم في عدد من الأقطار.
وحين يوجد الفراغ، يحين موعد تنفيذ الأجندات. فالدول الكبرى وغيرها لها مصالح، تعمل على نفاذها، وحالة الهشاشة وضعف الهياكل هو ما يمكنها من تنفيذ تلك الأجندات. والنتيجة، أننا لم نكن أمام ثورات أو مشروع أجندات. كان انطلاقاً عفويّاً، ولكل انطلاق عفوي من هذا النوع، تداعياته المريرة والخطيرة.