د . يوسف مكي
هذا الحديث معني تحديداً بما يجري في العراق، وبشكل خاص الحرب التي يشنها التحالف الدولي ضد داعش، على مساحة تصل إلى ما يقرب من ثلث الأرض العراقية، وتأثيراته على الخارطة السياسية للعراق، وما تطرحه الإدارة الأمريكية، من سيناريوهات مفتوحة، في هذا السياق .
انقضت أربعة أشهر، منذ بدأ "التحالف الدولي"، الحرب على داعش . وخلالها اقتصرت الحرب على العمليات الجوية، وتقديم دعم عسكري ولوجستي أمريكي للجيش العراقي . لكن ذلك لم يؤد إلى تقهقر داعش، بما يعني أن هزيمة هذا التنظيم لا تزال بعيدة عن المنال .
وكان الرئيس الروسي بوتين، قد صرح مؤخراً، أن الأمريكيين لم يحققوا أي تقدم، على جبهة محاربة الإرهاب . إن التنظيم لم يخسر مواقعه فحسب، بل وتمكن من التمدد إلى مواقع أخرى .
ووفقاً لمسؤولين عراقيين، ليس هناك ما يشي بقدرة القوات العراقية إلحاق الهزيمة بداعش وأن ما ينتظر العراقيين، هو المزيد من إزهاق الأرواح والممتلكات . إن استمرار القتال، من غير حسم، سيدخل العراق، في أتون حرب أهلية، من شأنها تهديد دول الجوار . لقد أدت الحرب إلى نزوح أكثر من مليونين ونصف المليون عن مناطقهم، إلى شمال العراق . وإن استمرار العجز عن حسم المعركة يعني بقاء النازحين إلى أمد غير منظور، وإضافة لمعاناة العراقيين .
لم تتمكن القوات العراقية، من استعادة أية مدينة رئيسية، وما تم تحريره، لم يتعد بلدات صغيرة، ليست لها أهمية عسكرية، ولا توجد ضمانات من سقوطها مرة أخرى، بيد داعش . في المقابل، لا تزال المدن الرئيسة الكبرى إلى الجانب الشمالي والغربي من البلاد تحت سيطرة "داعش" . حيث لا حضور، للسلطة الحكومية في هذه المدن .
من جهة أخرى، يبدو أن الأمريكيين لا يتعاطون بجدية مع التطورات الميدانية . فالغارات التي تشن ضد داعش، محدودة ولا تتكافأ مع الهدف المعلن للحرب، بما يطرح كثيراً من الشكوك حول السيناريوهات التي يجري الحديث عنها في دوائر صنع القرار الأمريكي، حول مستقبل العراق . وهناك من يرى أن السياق البطيء للعمليات هو أمر متعمد لتنفيذ سيناريو التفتيت .
تشير تقارير استخباراتية أمريكية، وفقاً ل"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" إلى أن عام ،2015 سيشهد إعادة تشكيل الخرائط السياسية في منطقة الشرق الأوسط . وفيما يتعلق بالعراق، تطرح هذه التقارير ثلاثة سيناريوهات، لم تحدد الإدارة الأمريكية أيهما سيأخذ مكانه على الأرض، إلا أن جل المؤشرات تشي بأن خيار التقسيم هو المفضل بينها .
السيناريو الأول، الاستمرار في الوضع الحالي، حيث يبقى العراق غارقاً في الفوضى، بما يعنيه من بقاء تنظيم داعش في المناطق التي يسيطر عليها . ووفقاً لهذا السيناريو، يشكل وجود داعش تحدياً للوجود الإيراني في العراق، ويحول بينه وبين عمقه الاستراتيجي في لبنان، مروراً بالأراضي السورية . إن من شأن تطبيق هذا السيناريو إضعاف العلاقة الاستراتيجية بين إيران وأي نظام سياسي يسيطر على دمشق . كما أنه سيؤدي في نتيجته لإضعاف دور حزب الله العسكري، بما يجبره على خيار القبول بالتواجد السياسي فقط، ضمن اللعبة البرلمانية اللبنانية .
السيناريو الثاني، هو عودة الجيش الأمريكي لاحتلال العراق، تحت ذريعة عجز الحكومة العراقية عن مواجهة الإرهاب . يتعلل الذين يرجحون احتمال تطبيق هذا السيناريو من دون غيره، بالرد العسكري الأمريكي الضعيف وغير المتكافئ على هجمات داعش في العراق . إنهم يرون أن الأمريكيين بهذا الموقف، يدفعون بالحكومة العراقية، إلى المطالبة بتدخل عسكري بري ومباشر لمواجهة الإرهاب . بما يعني عودة الجيش الأمريكي للعراق، وفقدانه لسيادته واستقلاله .
لكن هذا الافتراض يفتقر إلى المنطق . فالجيش الأمريكي غادر العراق، وكان الدافع لذلك هو جسامة الخسائر المادية والعسكرية، التي تعرض لها . وأيضاً بسبب الأزمة الاقتصادية داخل الولايات المتحدة نفسها . وليس من المنطق أن يعود الأمريكيون مجدداً للعراق، بعد أن اتخذوا قراراً استراتيجياً بالرحيل عنه، خاصة أن مصالحهم الاستراتيجية فيه لم تتأثر مطلقا بذلك .
السيناريو الأخير، وهو الأقرب للاحتمال، مشروع تقسيم العراق لثلاث دول: دولة كردية في شمال العراق، وهو مشروع متحقق وقائم فعلياً، ولم يتبق سوى الإعلان عنه، وحصوله على الأبعاد القانونية، والانخراط في المؤسسات الدولية . ودولة أخرى، سنية فيما عرف بالمثلث السني: وتضم المحافظات التي تسيطر عليها داعش الآن: الأنبار ونينوى وصلاح الدين وبعقوبة . ودولة ثالثة، شيعية في وسط العراق وجنوبه .
الحديث عن تقسيم العراق، سبق للكونغرس الأمريكي أن صوت عليه بقرار غير ملزم، إثر مشروع تقدم به نائب الرئيس الأمريكي جوزيف بايدين . وتشكيل إقليم سني يحظى بتأييد من قبل بعض الأعضاء في البرلمان العراقي . وقد بدأت الإدارة الأمريكية في تعبيد الطريق له من خلال البدء بتشكيل "جيش سني" على غرار ميلشيات "الحشد الشعبي" . وإذا ما تحقق ذلك قريباً، فإن ذلك يعني تشكيل القوة العسكرية الضاربة للدولة "السنية"، المتوقع الإعلان عنها، ضمن هذا السيناريو .
هل سيكون عام ،2015 هو العام الذي يعلن فيه وجود ثلاث دول مستقلة في العراق . ذلك أمر صعب قبوله ولكنه ليس مستحيلاً، أمام ضعف النظام العربي الرسمي، وتراجع تأثيره في تقرير مستقبل الأمة العربية .
متواليات التفتيت، لن تقتصر على العراق . وإيقاف حالة الانهيار تتطلب العودة إلى الجذور . وجذور المأساة العراقية، تكمن في تركة الاحتلال البغيضة، التي أتاحت التغول للقوى الطائفية . ليس من حل لأزمة العراق، إلا بعودته إلى حاضنته العربية، وتحقيق مصالحة تاريخية، تراعى تطلعات كل مكونات النسيج العراقي . ولا تعتبر الكم قياساً للحقوق . ينبغي أن تكون مسطرة الحقوق واحدة، وأن يسود مبدأ المواطنة، القائم على الندية والتكافؤ بين جميع المواطنين .
ومرة أخرى، إلغاء العملية السياسية التي هندس لها برايمر التي قسمت العراق إلى حصص بين الطوائف والأقليات، وبناء جيش قوى وإيقاف قرار الاجتثاث، هي المقدمات الضرورية لتحقيق المصالحة الوطنية، التي هي الشرط الرئيس للمواجهة الكبرى للإرهاب في العراق، وإلحاق الهزيمة به وبمرتكزاته . ومن غير ذلك ستستمر حالة الاحتقان وسيحتمي المظلومون في الأنبار وصلاح الدين ونينوى وغيرها من المدن، بتنظيم القاعدة وداعش، كتعبير عن رفضهم لواقع تختل فيه موازين العدالة، وتنتهك فيه الأعراض والحرمات .
أي اتجاه عربي مخلص لإنقاذ العراق، ينبغي أن يتجه فوراً إلى جذور المشكلة، ومن غير ذلك، ربما تهزم داعش وأخواتها، لكن مقومات الاحتقان ستظل كامنة، إلى أن تقتلع من جذورها .