ماذا يجري في خليجنا العربي بالضبط؟
ماذا يحدث، وما الذي نحن مقبلون عليه؟
أي متابع لما يجري، ولتلك التحركات المحمومة التي تجري في المنطقة وحولها، لابد ان ينتابه الاحساس بأن المنطقة على اعتاب تطورات خطيرة. لا احد يعرف بالضبط أي نوع من التطورات هي، وأي نتائج وتداعيات يمكن ان تترتب عليها.
قراءتنا التي سنقدمها هنا تشير إلى اننا ازاء أوضاع هي في منتهى الخطورة والكآبة.
نحن ازاء حرب باردة جديدة يمكن ان تندلع بين دول مجلس التعاون.
نحن ازاء انشقاق كبير على وشك ان يشهده مجلس التعاون.
نحن ازاء أوضاع ستترتب عليها نتائج كارثية على كل المستويات.
} } }
تحالف رباعي
مؤخرا، قام السلطان قابوس سلطان عمان بزيارة لإيران. الزيارة لقيت ترحيبا ايرانيا حارا على كل المستويات، واحتفت بها كل وسائل الاعلام الإيرانية احتفاء شديدا. وهذا أمر طبيعي، فهذه هي الزيارة الاولى التي يقوم بها السلطان لإيران منذ قيام الثورة الايرانية. والعلاقات بين عمان وإيران كانت دوما علاقات طيبة.
لكنني توقفت مطولا جدا أمام تحليل قصير نشرته احدى وكالات الانباء الإيرانية في اطار الترحيب بزيارة السلطان. التحليل عنوانه "أهلا بسلطان السلاطين".
بعيدا عن الترحيب بالزيارة والاشادة بمواقف سلطنة عمان والعلاقات الإيرانية العمانية، الذي توقفت عنده أمران محددان وردا في التحليل:
الاول: اشارة كاتب التحليل إلى ان "هناك أحداث جسيمة قد تقع على المدى القصير في المنطقة وبالتحديد في الخليج، واحتمال وقوع صدامات عربية عربية في المنطقة".
هو يقصد هنا كما هو واضح ان خلافات، بل صراعات قد تنفجر علنا في المستقبل القريب بين دول مجلس التعاون الخليجي.
والثاني: وهو الاخطر ويندرج في السياق نفسه، ما جاء في التحليل، في سياق الحديث عن أهمية العلاقات الأمنية بين إيران وسلطنة عمان، من ان "محور الحديث يكمن هنا في بناء كتلة أمنية وعسكرية تشمل إيران والعراق وسلطنة عمان وقطر لمنع التدخلات الخارجية وابعاد شبح الصراعات الاقليمية والدولية عن المنطقة".
الاشارة هنا كما هو واضح إلى شكل من أشكال التحالف العسكري والأمني الرباعي يضم هذه الدول، وبالطبع في مواجهة باقي دول مجلس التعاون.
كيف يمكن لنا ان نقيم هذا الذي ذكره تحليل الوكالة الايرانية؟ وما مدى مصداقيته؟
كان من السهل ان ننظر إلى هذا الكلام على اعتبار انه مجرد اجتهاد عام من كاتب التحليل واقتراح يقدمه، ومن دون ان يعني هذا بالضرورة ان مثل هذه الافكار مطروحة بالفعل على الصعيد العملي.
لكن طرح فكرة عملية محددة كهذا التحالف الرباعي لا يمكن ان يأتي هكذا جزافا من وكالة رسمية تتحدث باسم النظام الايراني. والتحليل نفسه يشير صراحة إلى ان هذه الفكرة هي موضع بحث ونقاش.
والأهم من هذا، ان الشواهد العامة مما يجري في المنطقة في الفترة الماضية وحولها، وما تشهده من تحركات على أصعدة شتى، والقراءة السياسية العامة لما تشهده المنطقة من تطورات على أصعدة شتى، يوحي بأن هذه المسألة من الممكن ان تكون جدية فعلا، وان ترتيبات تجرى فعلا لاقامة هذا التحالف الرباعي العسكري والأمني.
ولعل اهم هذه الشواهد تتلخص على النحو التالي:
كانت هناك بداية الزيارة التي قام بها منذ فترة رئيس الأركان القطري لطهران. وهذه الزيارة اثارت كما نعلم في حينها تساؤلات كثيرة حول الغرض منها بالضبط، وفي أي اطار وسياق يمكن ان يندرج التعاون العسكري بين إيران وقطر الذي كان موضوعا للزيارة.
الآن، هذا الحديث عن تحالف رباعي من الممكن ان يضع الزيارة في سياق مفهوم.
وجاءت التصريحات الشهيرة التي أدلت بها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون واثارت جدلا واسعا، وتحدثت فيها عن استعداد أمريكا لاقامة "مظلة دفاعية" لحلفائها في منطقة الخليج في مواجهة التهديدات والخطر النووي الايراني.
في البداية، ظننا وظن كثير من المحللين ان هذا حديث عام لا يعني بالضرورة ان هناك تفكيرا جديا فعلا في اقامة مثل هذه "المظلة الدفاعية".
لكن سرعان ما اتضح ان كلام كلينتون جدي جدا ومحسوب بعناية.
كلينتون نفسها عادت بعد ادلائها بالتصريح وتحدثت عن الفكرة وهدفها بتفصيل أكبر في لقاء تليفزيوني في برنامج "واجه الصحافة".
كلينتون وضعت المشروع في إطار استراتيجية "الأمل في الأفضل، والتخطيط للأسوأ". وقالت: "أظن انه من الواضح اننا نحاول التأثير في الحسابات الداخلية للنظام الإيراني. الحكومة الإيرانية، التي تواجه تحديات تتعلق بشرعيتها من جانب الشعب، عليها ان تعلم ان سعيها لامتلاك أسلحة نووية، هو أمر تقف بلادنا وحلفاؤنا ضده بقوة. اننا نعتقد انه ليس من المقبول امتلاك إيران لأسلحة نووية.. ونحن متحدون في التزامنا الدائم بمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية. وما نريد ان نفعله هو إرسال رسالة إلى من يتخذون هذه القرارات بأنه اذا كنتم تسعون لامتلاك أسلحة نووية، فاننا لن نسمح بهذا ان يحدث .. لن نسمح أبدا بهذا.. هذا أمر ننظر اليه بمنتهى الجدية، ولهذا فاننا نفعل كل ما نستطيع من أجل الحيلولة دون حدوثه".
بعبارة أخرى، من الواضح كما ذكرنا وبحسب كلام كلينتون هذا، ان فكرة أو مشروع اقامة "مظلة دفاعية في الخليج" تندرج في اطار استراتيجية أمريكية واضحة.
بعد ذلك، نشرت صحيفة "الشروق" المصرية في احد أعدادها، تفاصيل عن هذه المظلة الدفاعية، والمهم هنا انها ألمحت إلى ان الدول العربية الحليفة لامريكا وافقت بالفعل على الانخراط في هذه المظلة، واللافت هنا ما ذكرته من ان سلطنة عمان عارضت هذه الفكرة، وانها أبلغت موقفها هذا إلى العواصم العربية المعنية وكذلك إلى الادارة الامريكية. ومن المتوقع طبعا ان يكون لقطر الموقف العماني نفسه.
الذي نريد ان نذهب إليه هو ان هذا الحديث الجدي عن المظلة الأمنية، التي تعني في جوهرها اقامة شكل من أشكال التحالف العسكري والأمني الرسمي بين أمريكا وحلفائها في المنطقة، يعطي للحديث المقابل عن تحالف عسكري أمني يضم إيران والدول الثلاث في الخليج قدرا من المصداقية. على الأقل، ليس من المستبعد ان يكون هناك تفكير في هذا الاتجاه.
لكن ماذا وراء كل هذا؟ ما الذي حدث كي تتجه المنطقة إلى هذا الاستقطاب الخطير الحاد؟
} } }
تحولات الاستراتيجية الأمريكية
من الواضح ان وراء هذا التصعيد الذي تشهده المنطقة ما بين مظلة أمنية من جانب وحديث عن تحالف رباعي بالمقابل، تحولات أساسية طرأت على الاستراتيجية الأمريكية في التعامل مع إيران وأزمة البرنامج النووي الإيراني، وترتب عليه بالمقابل تحول في التفكير الإيراني.
والمتابع لتصريحات كبار المسئولين الامريكيين في الأسابيع القليلة الماضية، وأيضا لما ينشر في أمريكا من تحليلات سياسية، يستطيع ان يرصد أبرز ملامح وابعاد التحول في الاستراتيجية الأمريكية على النحو التالي:
أولا: من الواضح انه تزايدت، أو حتى ترسخت، قناعة في أوساط الادارة الامريكية، بأن إيران لا تعتزم في كل الأحوال التخلي عن مواقفها وسياساتها التي هي بالطبع مرفوضة أمريكيا، وهي أيضا موضع مخاوف وتحفظات من عدد من الدول العربية.
وبصفة خاصة، ترسخت فيما هو واضح قناعة بأن إيران لن تتخلى أبدا عن مشاريعها في تخصيب اليورانيوم، ولا حتى عن سعيها لامتلاك السلاح النووي ان كانت تخطط فعلا لذلك.
ثانيا: ومن ثم، ترسخت أيضا في أوساط الادارة الامريكية قناعة أخرى مؤداها ان الحوار السياسي الذي وعدت بفتحه مع إيران لن يكون له في نهاية المطاف أي جدوى، ولن يكون سوى مضيعة للوقت ونوع من التسويف، تعود بعده الأزمة إلى نقطة الصفر.
ثالثا: ثم جاءت أحداث الاحتجاجات الداخلية في إيران لتلعب كما هو واضح دورا أساسيا في تحول الاستراتيجية الامريكية، من زاويتين مهمتين:
الأولى: اعتقاد أوساط الادارة الامريكية أن هذه الازمة الإيرانية الداخلية أضعفت النظام الإيراني، وان هذه الأزمة سوف تطول. ومن ثم، فإن الظروف أصبحت أكثر ملاءمة للتحول عن توجه محاولة استرضاء النظام الايراني أو الوصول إلى توافق معه.
الثانية: وهذا بعد في غاية الأهمية، ويتعلق بموقف الادارة الامريكية بمسألة شرعية النظام الايراني، والتعهد بعدم السعي لاسقاطه.
القضية هنا ان أحد أكبر الشروط التي كانت تطرحها إيران في إطار أي حوار مع أمريكا وأي جهود للتوصل إلى حل سلمي للأزمة، هو ان تتعهد الادارة الامريكية رسميا بألا تسعى تحت أي ظرف لزعزعة نظام الجمهورية الاسلامية في إيران أو تسعى لاسقاطه. بالطبع، كان مثل هذا التعهد يعني ان تحجم أمريكا عن تقديم أي دعم وبأي شكل سياسي أو اعلامي أو مادي للمعارضة الإيرانية أو أي قوى مناوئة للنظام.
الذي حدث انه من الواضح بعد الاحتجاجات الداخلية في إيران ان الادارة الامريكية لم تعد مستعدة لأن تلتزم بمثل هذا التعهد.
وزيرة الخارجية كلينتون في الحوار الذي أشرت اليه في برنامج "واجه الصحافة" ألمحت بوضوح إلى هذا التحول.
سألها المذيع: هل النظام في إيران هو نظام غير شرعي؟
أجابت: "هذا متروك للشعب الايراني كي يقرره. لقد تأثرت كثيرا بصيحات الحرية، وبالرسالة الواضحة التي تم توجيهها إلى الحكومة الإيرانية بأن هذا البلد المهم وهذا الشعب العريق الذي لديه هذه الثقافة العظيمة والتاريخ العظيم، يستحق أفضل مما يحصل عليه". وفي سياق الحوار، أشارت كلينتون إلى انه حتى لو ان الادارة الأمريكية أجرت حوارا مع النظام الإيراني، فإن هذا لا يعني بالضرورة التخلي عن الشعب الايراني أو خيانة الحركة الديمقراطية الساعية إلى اسقاط النظام.
ثم جاءت التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت جيتس في أعقاب تنصيب محمود احمدي نجاد لتؤكد هذا التحول في الموقف الأمريكي من مسألة شرعية النظام الإيراني ومدى استعداد أمريكا للتعهد بعدم السعي لاسقاطه. فقد تراجع المتحدث عن تصريح كان قد أدلى به وفحواه ان أمريكا تعتبر نجاد هو الرئيس المنتخب. عاد في اليوم التالي ليسحب هذا التصريح، وليقول ان هذا الأمر، أي أمر شرعية نجاد كرئيس منتخب يقرره الشعب الايراني.
هذه القضية، قضية موقف أمريكا من شرعية النظام الايراني، هي بالطبع قضية حاسمة بالنسبة إلى إيران.
على أية حال، بناء على هذه الاعتبارات والحسابات الامريكية الجديدة، حدث كما قلنا التحول في الاستراتيجية الامريكية في التعامل مع ايران.
بالمفاهيم السياسية والاستراتيجية، تحولت أمريكا من سياسة الاحتواء إلى سياسة الردع. أي تحولت من محاولة احتواء ما تعتبره أمريكا خطرا استراتيجيا ايرانيا عن الطريق السياسي بالحوار ومحاولة التفاهم والتوصل إلى توافق ما، إلى المواجهة. والمواجهة لا تعني بالضرورة الحرب، وانما لها اشكال كثيرة.
هذه المظلة الأمنية هي احد أكبر اشكال المواجهة.
وفرض عقوبات قاسية جدا على إيران هو شكل آخر.. وهكذا.
وفيما هو واضح، فإن إيران وقد وعت بالضرورة هذه التحولات في الاستراتيجية الأمريكية، فإنها بالمقابل باتت تفكر بدورها في أشكال للمواجهة.
والتفكير في اقامة مثل هذا التحالف الرباعي العسكري والأمني، من الممكن ان يكون منطقيا احد أكبر اشكال المواجهة الايرانية.
} } }
حرب باردة
ما الذي يعنيه كل هذا الذي ذهبنا اليه؟
إذا صح هذا التحليل، ونظن انه صحيح، فسيعني هذا اننا في منطقة الخليج خصوصا ازاء تطورات وتداعيات في منتهى الخطورة لابد ان ننبه إليها، نستطيع ان نلخصها على النحو التالي:
أولا: سيعني هذا اننا على أبواب اندلاع حرب باردة عربية عربية شرسة داخلية بين دول مجلس التعاون الخليجي بالذات.
سوف يعني هذا ان مجلس التعاون الخليجي هو على أبواب الانشقاق الكبير.
نحن نعرف ان هناك بالفعل خلافات سياسية بين دول المجلس ازاء قضايا كثيرة وفي مقدمتها الموقف من الأزمة الإيرانية.
ليس هذا بالأمر الجديد.
الجديد هنا في ضوء هذا التحليل اننا في الفترة القادمة سنكون ازاء معسكرين متناحرين، كل معسكر له تحالفاته وارتباطاته الاقليمية والدولية.
سنكون ازاء معسكر مرتبط بتحالف استراتيجي مع أمريكا في إطار مظلة أمنية، أو أيا كانت التسمية. فقد قيل ان الاجراءات والسياسات المرتبطة بهذه المظلة سوف يطلق عليها "الترتيبات الأمنية الجديدة في الخليج".
وسنكون بالمقابل ازاء معسكر آخر يرتبط استراتيجيا بإيران ممثلا في ذلك التحالف الرباعي.
الخطورة هنا ليست خلافات سياسية بين المعسكرين، فهذا أمر ليس بالجديد. نحن نتحدث هنا عن ارتباطات عسكرية وأمنية. أي اننا سنكون عمليا ازاء حلفين عسكريين متناحرين.
} } }
نتائج خطيرة
مع اننا لسنا بحاجة إلى الحديث بأي قدر من التفصيل عن النتائج الخطيرة لوضع مثل هذا الذي تحدثنا عنه، إلا ان من المهم التنبيه إلى عدد من التداعيات.
قبل كل شيء، إذا حدث هذا التطور المفزع، فإن مجلس التعاون الخليجي سوف يصل، وبأخف التعبيرات إلى مرحلة الشلل التام على كل المستويات.
وكيف لا يحدث هذا إذا تحولت دوله إلى معسكرين متناحرين؟
وإذا حدث هذا، فلنا ان نقول وداعا لأي أمل في استقرار أو أمن ننشده لمنطقة الخليج.
وأي أمن أو استقرار يمكن ان نتوقعه اذا اندلعت هذه الحرب الباردة الجديدة بما تعنيه من صراع مفتوح على كل المستويات في المنطقة؟
وإذا حدث هذا، فسوف تكون له بداهة نتائجه وتجلياته المدمرة على الأوضاع الداخلية في كل دول مجلس التعاون.
سيتم تأليب شعوب على شعوب.. سيتم استنفار نخب موالية لأمريكا، ونخب موالية لايران.. سيكون خرابا.
وطبعا، إذا حدث هذا، فسوف ينعكس على كل القضايا العربية الكبرة.. سيكون ضياعا لكل هذه القضايا.
} } }
هذا الوضع الذي من الممكن ان نكون مقبلين عليه، يثير بالضرورة تساؤلات حزينة مرة.. هل مجلس التعاون، بعد كل هذا العمر، وبعد كل هذا الذي تحقق على صعيد العمل المشترك بين دوله، لا يقدر قادته على التوصل معا إلى حد أدنى من الرؤى المشتركة ازاء هذه القضايا، يجنبنا مثل هذه الاحتمالات المأساوية؟
.. هل، على الصعيد الخليجي العربي، والصعيد العربي العام، لم يعد لدى قادتنا من خيار أو طريق آخر، سوى خيار وطريق الانضواء تحت جناح قوى أجنبية كأمريكا أو إيران والسير في ركابها؟.. الا يوجد خيار أو طريق عربي نطرحه نحن ونتمسك به؟
.. ألم يعد لنا نحن العرب كلمة في شئوننا بعيدا عن كلمة هؤلاء الاجانب؟
.. أما آن لهذا الخليج ان يهدأ ويستقر؟ ولشعوبه ان تحلم بمستقبل أفضل وأكثر إنسانية؟
.. أم هل على شعوب مجلس التعاون ان تودع حلمها النبيل في التكامل والوحدة؟
هذه كلها أسئلة حزينة ومريرة، ولسنا نملك إلا أن نطرحها، عسى ان تلقى آذانا صاغية عند أولي الأمر.. عسى ان يسمع الصم النداء.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.