مسألة أخرى على صلة وثيقة بالحقائق التي أشرنا إليها في المقالة السابقة الثلثاء الماضي، يحسن التوقف عندها، وهي مسألة «التعددية» على مختلف أشكالها، في المجتمع البحريني، ونعني بها التنوع بكل عناوينه المذهبية والسياسية والقبلية والمناطقية! فهذه التعددية هي من الحقائق الراسخة في بلدنا، وهي تمثل إحدى موروثات الجغرافيا، وبعض شواهد التاريخ، والتي ستبقى موجودة في كل الأزمان، أي لسنا نحن من أوجدها، ولسنا من يمتلك القدرة على تغييرها، ولكن الذي لا يقبل الجدال هو أننا حتماً مسئولون عن طريقة التعامل أو التعاطي مع هذه التعددية، من الزاوية الإنسانية والاجتماعية، وعن طريق إدارة الاختلافات التي يفرزها هذا الواقع التعددي.
فالمجتمع البحريني مثله مثل بقية المجتمعات التي تتسم بالتعددية وتمر بفترات من التحول والتغيير، وسيكون هناك دائماً صراع بين قوى التغيير والدفع إلى الأمام (المستقبل) وبين قوى الشد العكسي (استمرار الحاضر)… والحراك الشعبي البحريني في إطار هذا الفهم هو عند أي قارئ منصف للتاريخ، وأي متعاطف مع إرادة الشعوب في الإصلاح والتطور، سينظر إليه باعتباره إحدى المحطات المهمة في مسيرة هذا الصراع القائم دائماً وأبداً بين قوى التغيير وقوى المحافظة أو المساندة للوضع القائم… وبالتالي فإن هذا الصراع الاجتماعي والأهلي وكل التوتر الطائفي الذي نراه اليوم، وكل هذه الانقسامات والولاءات المذهبية والقبلية التي اندفعت إلى السطح مرة واحدة، وبهذه القوة والخطورة، كانت من دون شك مستقرة أو خامدة في عمق المجتمع تنتظر الفرصة للانفجار والانشطار لتحرق شظاياها المتطايرة الجميع من دون استثناء وهو ما يعني في واقع الأمر أن الدولة وعلى مدى عقود من الزمن قد عجزت عن إنجاز مهمة صهر هذه الولاءات وطنياً في بوتقة دولة المواطنة والقانون، وفشلت في تحويل التنوع والتعدد إلى مصدر قوة أو الارتقاء به إلى مصاف التنوع الإيجابي الذي يثري المجتمع والسبب طبعاً يعود إلى المناخ السياسي السائد في البلاد على مدى عقود طويلة، من غياب قيم العدالة والمساواة، واعتماد سياسات تمييزية بين أبناء الوطن الواحد، وهذه جميعها عناصر تغذي الانقسامات والولاءات الفرعية وتطيل من عمرها كما يؤكد ذلك علماء الفكر والاجتماع (انظر خالد الحروب القبيلة والطائفية قبل الثورات وبعدها – صحيفة «الحياة» العدد 17747، 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011م).
وفق هذه الرؤية فإن كل ما فعله الحراك الشعبي في البحرين هو هز أو خلخلة هذه الأوضاع الراكدة، وكشف المستور منها، بمعنى أنه جعل كل الانقسامات الطائفية والاختلالات الاجتماعية المختبئة تحت السطح، تطفو وتقفز إلى الواجهة لتكون في وجه الشمس لتضيء بأنوارها بعض المواقع «المعتمة» وتزيل بحرارتها المساحيق التجميلية عن بعض الوجوه المتخفية وراء مظاهر زائفة.
وماذا بعد؟
نقول: على رغم قسوة الوضع الذي يمر به بلدنا حالياً، وعلى رغم شدة الآلام النازفة التي يعاني منها مجتمعنا، والأثمان الباهظة التي دفعها وطننا، مازلنا نرى ضوءًا في آخر النفق وكما يقال: «في شدة الضيق بعض الفرج»، «وبعض الخير يكمن فيما نكره»! فاليوم هناك فرصة لمقاربة الأوضاع السيئة التي فجرت الصراع والبدء في معالجتها بصورة صحيحة وحازمة، ولا سبيل إلى ذلك من دون توفر الوعي الوطني العام، ووجود الإرادة السياسية الصادقة، التي ترمي إلى استيعاب كل الاختلافات والانقسامات بين مكونات وأطياف المجتمع بصورة عادلة ومتكافئة بحيث يتحول الاختلاف أو التنوع إلى مصدر قوة للدولة وللمجتمع، على حد سواء.
وقبل ذلك لابد من الإقرار والاعتراف بأن البلاد تعاني من عطب سياسي وخلل اجتماعي في البناء الداخلي يحتاج إلى معالجة سريعة من خلال إعادة صياغة أسس ومقومات الدولة لترسيخ دولة المواطنة الحاضنة للجميع.
صحيح أن بناء بعض هذه الأسس يحتاج إلى وقت إلا أن من المهم أن تكون البدايات سليمة والنوايا صادقة، والأهداف معلنة وصريحة، وآليات الوصول إليها صحيحة، في إطار خريطة طريق تبين الأهداف وتحدد فترات التنفيذ. أما من حيث الأهداف فتتلخص في بناء دولة ديمقراطية دستورية تقوم على المساواة التامة بين جميع المواطنين بغض النظر عن أصولهم وطوائفهم ودياناتهم، أما الآليات، فتتمثل في الحرية والفرص المتكافئة والعادلة لكل المواطنين وسيادة القانون الذي يحمي الأفراد ويصون كرامتهم بما يعزز الوعي عندهم بأن الدولة وحدها هي من يحمي حقوقهم ويرعى مصالحهم، هذا ما فعلته كل المجتمعات الديمقراطية التي حسمت هذه القضية عبر اللجوء إلى الخيار الدستوري.
وأخيراً، لابد من اتخاذ بعض الخطوات التمهيدية الجريئة من قبيل تقليم أظافر كل الطائفيات المستشرية ودعاتها، وخلع أسنانها التي راحت تنشبها في جسد الوطن من دون رحمة، ووقف «تغولها» الذي بات يجتاح المجتمع، وينذر بتحولها إلى دولة داخل الدولة، وتحويلها أي أزمة يمر بها المجتمع إلى براكين فتنة تحرق الأخضر واليابس، فالبحرين إذاً محتاجة إلى قرارات شجاعة وحازمة من الدولة والمعارضة معاً وكل قوى المجتمع لوقف هذا الانزلاق الخطير نحو الفوضى السياسية والاجتماعية والأمنية واستعادة الوطن الذاهب إلى المجهول… قبل فوات الأوان