عبيدلي العبيدلي
وحدها المجتمعات الحية هي تقبل الانفجارات بين مرحلة وأخرى من تاريخها. وتلك الانفجارات، بغض النظر عن مدى حدتها، أو رخاوتها، تبقى شكلاً من أشكال استجابة قوى معينة، في فترة تاريخية محددة، في ذلك المجتمع المعين لمطالب التغيير، الذي يصبح حينها حالة ضرورية ملحة يصعب تجاوزها، ولا تسمح لمن يريد في ذلك المجتمع أن يرفضها أو أن يتغافلها. عوامل بروز الحاجة للتغيير، ليست بالضرورة محصورة في أسباب محلية، ففي أحيان كثيرة تفرضها عوامل إقليمية، وفي حالات أخرى تنبثق بفضل عوامل دولية. وبروز المطالبة بالتغيير على السطح لا يفترض ضرورة حصوله، وعلى النحو، الذي أظهرته الحاجة له. ففي حالات يأخذ التغيير مجرى مختلفاً عن ذلك المتوقع له، فيصل إلى أبعاد أعلى من تلك التوقعات، لكنه يجبر القوى الضالعة فيه، بغضّ النظر عن موقفها منه، على القبول به. وفي أحيان أخرى، تفرض ظروف سلبية محيطة بمنطقة انبثاق الحاجة للتغيير نفسها، فتفرض نفسها أيضاً على القوى المنخرطة في عملية التغيير، فتلجمها، وتجهض مساعيها، وتفرض عليها جميعاً حالة من الجمود، بل وحتى التراجع، تطول أو تقصر، وفقاً لموازين القوى المتصارعه لصالح التغيير أو ضده.
ما جرى في البحرين منذ 14 فبراير/ شباط 2011، لا يمكن إلا أن يعبر عن بروز تلك الحاجة للتغيير أولاً، وحيوية شعب البحرين عندما استجاب لها وبسرعة فائقة، متمسكاً بحقه في التغيير ثانياً. من ثم، وبغضّ النظر عما شاب سياسات المعارضة البحرينية، من هفوات صغيرة هنا، أو سوء تقدير لموازين القوى على الساحة هناك، لا بد من التأكيد على حقيقة جلية واضحة تقول بصحة استجابة المعارضة – معبرة عن طموحات شعب البحرين في التغيير – الملائمة زمنياً، والسليمة موضوعياً، بشكل عام لنداء التغيير الذي فجرت أحداثه جماهير 14 فبراير. ويعزز من دقة هذا القول بشأن صحة الموقف الإيجابي الذي تبنته المعارضة، واستعداد المجتمع البحريني للتغيير، ذلك الرد الجريء الذي عبر عنه النظام من خلال مبادرة سمو ولي العهد، عندما تحمل شخصياً مسئولية المجاهرة برغبته في الحوار، وتمسكه به، رغم إدراكه المسبق لوعورة طريقه، ومصاعب رحلته.
ولابد لنا من القول هنا بأن تاريخ البحرين، كان على أهبة تسجيل إنجاز نقلة تاريخية في أشكال تطور المجتمع، تكون نموذجاً ناجحاً يحتذى به، خاصة على المستوى الخليجي، لو قدر لمبادرة سمو ولي العهد أن تسير في مجراها الطبيعي، ولو أتيح المجال للخط المعتدل في المعارضة أن يمد يده لها، فيصافحها، كي يسيران سوية نحو تحقيق تلك النقلة النوعية التطويرية التي نتحدث عنها، والتي كان مشروع الإصلاح السياسي، الذي قاده جلالة الملك، بعد مضي عقد على تدشين ميثاق العمل الوطني، في أمسّ الحاجة إليها. لكن ذلك لم يتم، ولم يكتب للمبادرة أن تشق طريقها نحو المعارضة، التي حرم عليها هي الأخرى التقدم خطوات في اتجاه تلك المبادرة.
رغم كل ذلك، ليس القصد من ذلك السرد المقتضب، الدعوة إلى تصوير مأساوي لما آلت إليه الأمور، يقود بالضرورة إلى استدعاء، غير مبرر، لحالة كربلائية معاصرة، تشق فيها الجيوب، وتضرب بسببها الصدور، بقدر إصرار على التأكيد بأن الأبواب لا تزال مفتوحة، ومن ثم، فهي إشارة خضراء جديدة تؤكد بأن الطريق لا يزال مفتوحاً وسالكاً، في اتجاه استمرار حاجة الطرفين المتصارعين: الحكم، والمعارضة، إلى بعضهما البعض، وتدعو إلى ضرورة لقائهما على طاولة الحوار، الذي من الطبيعي أن تكون مبادرة سمو ولي العهد ومرئيات المعارضة هي القاعدة الصلبة الأساسية التي تنطلق منها. وكل من يحاول أن يروج لخلاف ذلك، فهو شاء أم أبى، بشكل مباشر أو غير مباشر، يساهم في حرمان انتفاضة 14 فبراير من المكاسب الشرعية التي تستحقها. ولضمان نجاح الحوار المطلوب، وتحاشي أية خسائر جديدة غير مبررة، لابد من الالتفات إلى قضية واحدة، من جملة قضايا أخرى هي: محاربة سيطرة أي شكل من أشكال الروح الانهزامية على المعارضة، الأمر الذي يجبرها، بوعي أو بدون وعي، على إلقاء أسلحتها (المقصود هنا أسلحة النضال السلمي، المعتمد على الجماهير بطبيعة الحال). ومن جانب آخر، وبالقدر ذاته، لابد من التحذير من سيادة نشوة الانتصار على الحكم، واستئساده بفضل ما يرى من قوى ضاربة متفوقة تحت إمرته، تشجعه على الدخول في مزاج حاد من الانتقام، تدفعه إلى الإقدام على إجراءات أمنية تهين المواطن، وتمعن في تحدي كرامته ومواطنته.
عندما تصل هذه الحالة إلى قمتها، نزعة انهزامية في صفوف المعارضة، ونشوة انتصارية لدى الحكم، تفقد دعوات الحوار الكثير من عناصرها الإيجابية، القادرة على مدها بأكسير الرغبة في التغيير الذي تحتاجه. وتتحول العلاقة بين الطرفين إلى ما يشبه تلك التي تنظم المجتمعات العبودية، التي تبيح للسيد التصرف فيما يملك كما يشاء، دون أية حدود اجتماعية أو سياسية، وفي المقابل، ترغم العبد، على أن يرضخ، لما يتعرض له من معاملات تجرده من إنسانيته، وافق عليها أم رفضها.
النقطة الأساسية هنا هي اقتناع المعارضة، وبشكل استراتيجي، أن ليس في جلوسها إلى طاولة الحوار، ما يعيبها أو يجردها من حقها في التمسك بمطالبها، التي لا ينبغي أن تكون شروطها كمن يضع العصا في دولاب عجلة الحوار، بقدر ما تؤسس لعلاقات مسئولية مشتركة بينها وبين نظام الحكم، تبيح لكليهما ممارسة دوره في التأسيس للمملكة الدستورية التي بشر بها ميثاق العمل الوطني. ومن هنا ستكرس قناعة المعارضة بضرورة تعاونها مع أطراف الحكم الداعية للحوار والقابلة بالتغيير الإيجابي السلمي نحو الأمام. على نحو مواز ومساو أيضاً، تبرز أيضاً ضرورة قبول الحكم، ومن رؤية مستقبلية بعيدة المدى، بحاجته إلى مشاركة المعارضة له في تحقيق تلك الرؤية، نظراً إلى كونها هي القناة الأكثر فعالية في تجييش الشارع من أجل نقل تلك الرؤية إلى حيز التنفيذ، ومن ثم فهو مطالب بأن يتحاشى حرمان المعارضة من حقها في ممارسة دورها الطبيعي هذا.
اقتناع الطرفين، بوجود هذه الحاجة المتبادلة بينهما، وجدواها، هي التي ستدفعهما، وبشكل مشترك، من أجل الجلوس إلى طاولة الحوار التي دعا له سمو ولي العهد، والبحث عن القواسم المشتركة، وإزالة العقبات المؤقتة، ونزع فتيل القنابل الموقوتة، كي يصلان بسفينة التغيير البحرينية إلى شطآن المملكة الدستورية الآمنة، التي نحن واثقون كل الثقة أن الشعب لا يكف عن الحلم بأن يعيش مكرماً في كنفه
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3125 – الإثنين 28 مارس 2011م الموافق 23 ربيع الثاني 1432هـ