لا يمكن التنبؤ مطلقا بمدى المساحة الزمنية التي سيبقى فيها تأثير وفعل القوات المسلحة حاسما في تحقيق السياسات الخارجية للدول. فعلى الرغم من التنظيرات الواسعة عن القوة الناعمة وامكانية أن تكون عامل جذب وتأثير على الاخرين، ودافعا لقيام ثورات برتقالية شعبية تضغط على الحكومات للالتحاق بهذا النموذج أو ذاك، الا أن الجيش يبقى هو القاعدة الاساسية لبناء الدولة كمؤسسة لها أهداف داخلية وخارجية تسعى الى تحقيقها، وبذلك بات واضحا أنه قد تقدم على كل أدوات الحكم الاخرى ووسائله. لكن هذا الفهم لدور المؤسسة العسكرية، ارتبط ايضا بقوة الدولة وتماسك أطرافها، فكلما كانت القوى الطاردة عن المركز أقوى ضعف البناء العمودي والافقي للجيش، وتشتت في أتون الصلاحيات والحدود التي تضعها الاطراف المتناحرة، التي لا ترى فيه سوى أداة لتحقيق سياسات المركز على حساب مصالحها، وكلما كان مفهوم الحكم غير واضح المعالم أصبح من الصعب بناء جيش قوي قادر على تحقيق مصالح الدولة العليا، فقوته لا تأتي من خلال الكم العددي، بل من خلال قوة مؤسسة الدولة ووضوح نظام الحكم فيها.
استنادا الى هذا الفهم فقد تم تأسيس الجيش العراقي في السادس من كانون الثاني/يناير العام 1921، حتى قبل أن تنضج مؤسسات الدولة العراقية الوليدة، لايمان القائمين عليه بأنه قاعدة الدولة والحكم، وقد كانت نواة تأسيسه الاولى هي فوج أطلق عليه تسمية (فوج موسى الكاظم) رغبة في جعل هذه المؤسسة تتناغم مع البناء الروحي للانسان العراقي، وانزاله منزلة قدسية في نفوس الناس، الذين يتباركون في المسميات التي تدل على رموز دينية يبجلونها ويقدسونها، فكان علامة بارزة في تاريخ العراق الحديث ومحطة مشرقة من محطاته انصهرت فيه كل الطوائف والقوميات والمذاهب. لقد كان جنوده وضباطه يجوبون العراق بكل مدنه من أقصاه الى أقصاه تبعا لحركة وحداته، مما فسح المجال لاختلاط سكان مدن جنوبه بشماله ووسطه بجنوبه وشرقه بغربه، فارتفعت الهوية الوطنية فوق جميع الهويات الصغرى، كما امتزجت دماء منتسبيه، على مختلف انتماءاتهم الصغرى في معارك الشرف الكبرى، في وحدة الهدف الوطني والقومي، وبذلك لم تقتصر مهمة الجيش على الواجبات التي هي من مهامه، بل ذهب أبعد من ذلك من خلال تعزيز التطور الاجتماعي وتقوية النسيج المجتمعي، وقد نجح في الخروج من الطوق المادي والمعنوي الذي حاول الاستعمار البريطاني أن يحجمه في داخله، من خلال انحيازه التام الى الحركة الوطنية العراقية والتخندق في مواضعها بعيدا عن أهداف المحتل، وبالتالي اخراج العراق من دائرة النفوذ الاستعماري البريطاني.
وكما شاءت الاقدار أن يكون اسم نواته الاولى تسمية عربية اسلامية يعتز بها الجميع وتشكل رمزا من رموز التاريخ العربي والاسلامي، فقد شاءت الارادة الوطنية والقومية لقيادته جعله أداة بيد الامة العربية للدفاع عن وجودها وحدودها ومقدساتها وتحقيق أهدافها، فكان له تاريخ مشرف امتد منذ يوم التأسيس، مرورا بكل المعارك الوطنية والقومية التي خاضها في فلسطين وسورية والاردن ومصر وغيرها، حتى يوم صدور القرار الظالم بحله على يد الاحتلال في العام 2003، الذي كشف عن مدى الحقد والضغينة التي تمور في نفوس الاعداء من الدور البارز الذي لعبه، وكيف أنه كان شوكة في عيون خططهم وعامل توازن استراتيجي لصالح القوة العربية. وقد انطلقت سهام الحقد الصهيونية والفارسية بعد ذلك القرار سيئ الصيت، كي تمتد بالغدر الى قادته وضباطه ومنتسبيه فتقتل الكثير منهم وتهجر الاخرين، حتى وصل عدد الضباط الطيارين الذين قتلوا في شهر واحد، ستة وثلاثين، في شهر رمضان من العام 2005 في حي الكرادة وحده، وهو ما كشفت عنه وثائق ويكيليكس، التي بينت أن ايران تشن حملة هادئة وفعالة للثأر من طياري العراق، وباتوا على قائمة اعدامات أعدتها. لكن كل ذلك لم يزعزع ايمانه بنهجه الاساسي فأبى حتى بعد حله، الا أن يكون كما هو وطني التوجه وقومي العقيدة ومؤسسة ذات ولاء شعبي، فكان له شرف قيادة فصائل المقاومة الوطنية منذ التاسع من نيسان/ابريل العام 2003 وحتى الان، مما أفشل مخططات الاعداء بانشاء شرق أوسط جديد، وعكس تأثيرات العدوان، الى ديار الغزاة هزيمة عسكرية واقتصادية كارثية، بعد أن كبدهم خسائر كبرى في تصديه لهم على أرض العراق.
وعلى العكس من توجهات التأسيس والنشأة الاولى للجيش العراقي، بادر الاحتلال الى انشاء جيش آخر قائم على أسس بعيدة جدا عن مفاهيم الوطنية والقومية التي بني عليها الجيش السابق، وكان ذلك مقصودا في منع تكرار التجربة الاولى ليقينه بأن الوعي الوطني والقومي هو شعور متأصل في البنية العراقية، وكي يقطع الطريق على هذا التوجه بالوصول مجددا الى بنية المؤسسة العسكرية، فقد ذهب الى أن تكون النواة الاولى لهذا الجيش قائمة على أكتاف ميليشيات طائفية تكن الحقد والبغض الشديد الى كل ما يتصل بالجيش السابق، كما أنها تخلصت تماما من الحس والشعور الوطني والقومي، بعد أن ابتعدت سنوات طويلة عن الوطن وقاتلت ضده في صف الاعداء، وكانت عقيدتها هي العقيدة التي تدربت عليها في معسكرات أجهزة المخابرات الدولية والاقليمية، التي تولت رعايتها لاهداف ضد الوطن، فتصدر قادة فرقه وأمراء الويته وأفواجه الكثير من زعماء ميليشيات الدعوة وبدر، التي تأسست وتدربت وتم تمويلها من ايران، الذين قاتلوا الجيش العراقي جنبا الى جنب مع القوات الايرانية خلال ثماني سنوات، وكان بعض عناصرهم يتسللون الى الاهوار كي يقطعوا الطريق على الضباط والجنود العائدين من جبهات القتال أو الملتحقين بها ويقتلونهم أو يأسرونهم ويسلمونهم الى القوات الايرانية، كما تسنم القيادة في الجيش الجديد أيضا عدد من الضباط الذين دربتهم المخابرات الامريكية والذين سموا (قوات تحرير العراق)، وهي ميليشيا تابعة الى أحمد الجلبي، كان غالبيتهم ممن تم تسفيرهم من العراق كونهم من أصول ايرانية، مضافا اليهم بعض العسكريين الفارين من الجيش، كما سمح للحزب الاسلامي العراقي الطائفي بترشيح من يرونه من عناصرهم للانتماء الى الجيش الجديد، أو تزكية بعض ضباط الجيش السابق من ذوي الرتب الصغيرة للالتحاق مجددا بعد أن يتعهدوا له، اضافة الى حصص أخرى تم توزيعها على ميليشيات البيشمركة الكردية وجيش المهدي والوفاق الوطني العائدة الى أياد علاوي وبقية الاحزاب المشاركة في العملية السياسية، مما بات معروفا جدا في الوسط العسكري ما يسمى (ضباط الدمج) الذين اتضح أن الغالبية منهم يجهلون حتى القراءة والكتابة، وأن مؤهلهم الوحيد هو العمل السابق مع الاحزاب الطائفية التي قاتلت مع الايرانيين أو التي تدربت على يد المخابرات الامريكية قبل الغزو.
لقد جانب المالكي الصواب كعادته وهو يقول (أما اليوم وفي العراق الجديد الذي شيدت فيه العملية السياسية على احترام الجيش وعدم تسييسه عدنا لبناء جيشنا على أساس المهنية والوطنية والالتزام وعدم الانحياز لاية جهة)، بينما الحقيقة لازالت واضحة في أن المليشيات هي العنصر الفاعل والقائد للجيش الحالي، حتى بات عدد الفرق التي تدين بالولاء للدعوة معروفا وللمجلس الاعلى والاكراد وغيرهم معروفا أيضا، بل انه لازال يحتفظ بالوية عسكرية تابعة للجيش أسميا فقط، بينما هو يتحكم بقوتها ويحركها كيفما شاء في القاء القبض على معارضي العملية السياسية، حتى باتت اعتراضات مجالس المحافظات مسموعة عن المداهمات التي تجري بين الحين والاخر من قبل هذه القوات، وكان آخرها مطالبات المسؤولين في محافظة صلاح الدين للوزراء، الذين هم من المحافظة بالمساعدة في اطلاق سراح الذين تم اعتقالهم من أبناء المحافظة على يد هذه القوات، مما يؤكد غموض الولاءات داخل الجيش وتعددها وأنها أبعد ما تكون عن الولاء للوطن. فما هي الفائدة المرجوة من جيش لا يعرف منتسبوه عقيدتهم العسكرية، وولاءهم لمن، وعدوهم من؟ بعد أن تحولوا الى أدوات بيد أحزاب تفتقر الى الهوية الوطنية الجامعة، وبات واجبهم الاساس المرابطة في شوارع وأزقة المدن كي يهينوا كرامة المواطن، ويعرقلوا حركة المرور بأرتالهم التي لا تحترم أبسط قواعد الضبط العسكري والقانون، أو يتحولوا الى ممثلين فاشلين يؤدون أدوارا ساذجة في خداع المواطن وارهابه بحجة وجود عبوة ناسفة في سيارته، كما شاهدنا ذلك على احدى الفضائيات، بينما يعاني الكثير من قادة الجيش السابق في دول الجوار بعد أن هجروا من وطنهم، وهم الذين ضحوا بالغالي والنفيس في أصعب الظروف التي مرت على العراق، من شظف العيش ومن عدم قدرتهم على التصرف بأملاكهم العقارية، بعد أن وضعت الحكومة يدها على أملاكهم واستغل الكثير من قادة الاحزاب والمليشيات وشيوخ عشائر السلطة ورجال دين السلطة، دورهم السكنية في بغداد والمحافظات واتخذوها مقرات لهم أو سكنا لعوائلهم وأقربائهم من دون مقابل.
ان اطلاق تسمية الجيش العراقي على الجيش الموجود حاليا في العراق فيها أجحاف كبير، ولا يمكن أن تستقيم أبدا الا بعد أن يعود العراق الى مرحلة الدولة الوطنية، وان الوصول الى هذه المرحلة يتطلب الكثير من الوقت والجهد وزوال الاحتلال بجميع أشكاله والوانه، وما رافقه من أحزاب طائفية لقيطة وتدخلات خارجية دولية وأقليمية، وهذا غير ممكن في الوقت الراهن، لان القوى التي تسيطر على المشهد السياسي العراقي هي أدوات وأجهزة لتلك القوى ولا يمكن أن تلعب هذا الدور مطلقا، بل ان الجهة الوحيدة المخولة شرعا وقانونا بالوصول الى هذا الهدف هي المقاومة الوطنية الباسلة التي كان لها الدور الريادي في التصدي للعدوان، وهي الابن الشرعي للجيش العراقي والوطن.
'
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.