الجيش العراقي.. ذكرى التأسيس وتداعيات قرار حله
د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي
أستذكر العراقيون والامة العربية قبل ايام قليلة، ذكرى تأسيس الجيش العراقي الباسل بنواته الاولى فوج موسى الكاظم، الذي كان بذرة طيبة ثبت أصلها في أرض الرافدين وسمق فرعُها في سماء الوطن العربي، فصنعت نصرا في كل حين وفي كل ساحة. كما أستذكر الموتورون والأجراء وأسيادهم ذكرى قرار حله. وأذا كان قرار التأسيس عربيا من قبل الملك العربي على عرش العراق فيصل الاول، وعراقيا بدفع ومساندة من السياسيين العراقيين أنذاك، وبموافقة بريطانيا التي كانت قوة أحتلال لها كلمة نافذة في الشأن العراقي، فأن قرار حله والتنكيل بقادته وضباطه ومنتسبيه كان أيضا قرارا عربيا وعراقيا ومن قبل قوة أحتلال أيضا هي الولايات المتحدة الامريكية. فلقد ترافق التخطيط الامريكي- البريطاني لغزو وأحتلال العراق في بواكيره الاولى بدراسة واقع الجيش العراقي، وضرورة حسم موضوعه بحيث يأتي القرار بشأنه مترافقا مع قرارعملية الغزو لابعدها، ليقين القوى المحتلة بأن تأجيل هذا الموضوع الحساس الى مابعد الغزو، سيشكل أحد أهم العوائق الاستراتيجية التي ستجابه المشروع الامريكي القادم في العراق. حيث أن الدخول في نقاشات مع القوى السياسية العراقية والدول المجاورة للعراق بشأن حله أو الابقاء عليه في مرحلة مابعد الغزو والاحتلال، ليس في مصلحة تلك الادارة أطلاقا، لعلمها بأن لا أحد من كل أولئك لديه القدرة والجرأة التامة على أتخاذ مثل هكذا قرار، لأسباب سياسية وأجتماعية وأقتصادية وعسكرية وحتى ثقافية. كما أن أبقاءه قائما بعد الغزو سيجعل منه قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة على المحتل والعملية السياسية حتى لو كان مجردا من السلاح، بعد أن يستوعب الصدمة العسكرية التي أحاطت به ويعيد تنظيم نفسه من جديد.
ففي الجانب السياسي سيُحكم على كل قوة سياسية عراقية بالفشل في التأثير السياسي والبروز على المشهد العراقي أن تبنت قرار حل الجيش بعد الاحتلال، وسيُحمّلها الشعب العراقي وزر التبعات التي ستنتج عن القرار، لأن المؤسسة العسكرية العراقية كانت تمثل الكرامة الوطنية. وفي الجانب العسكري لايمكن لأية جهة سياسية عراقية أن توفر البديل الاستراتيجي الحاسم، كي يقوم بدور الجيش في مسألة الدفاع عن الحدود الخارجية للبلد وتهديدات أمنه القومي. أما في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية فأن من سيتبنى هكذا قرار، ستقع عليه مسؤولية كبرى في تحمل التبعات الكارثية التي ستنتج عن قطع أرزاق مئات الاف من عوائل منتسبي الجيش، وما يخلفه ذلك من أثار أجتماعية سلبية تهدد المجتمع العراقي بشكل كامل. ولأن الجيش العراقي هو صاحب تاريخ مجيد وصانع إنتصارات حقيقة على الحدود الشرقية للوطن العربي، كما أنه مشارك فعال في صنع بطولات خالدة في فلسطين وسوريا والاردن ومصر، ولانه سمعة العراق وشرفه الوطني والقومي، فقد بات جزءا مهما من الذاكرة الثقافية العراقية، وأن أية قوة سياسية محلية غير قادرة مطلقا على تبني قرار حله، لان الذاكرة الجمعية للشعوب هي ملامح وقسمات وجه مجموعة بشرية لاتستطيع السياسة التعاطي معها والمجازفة بتغييرها.
ولقد وعت الادارة الامريكية هذا المأزق الذي سيمُر به حلفاؤها العراقيين أن تركت لهم مهمة حل الجيش، ولأنها تريد أن تصنع منهم (قادة حقيقيين) يرعون مصالحها في العراق والمحيط، فقد آثرت على نفسها دراسة أتخاذ قرار الحل قبل بدء العمليات العسكرية العدوانية ضد العراق، وترك مهمة أعلانه رسميا في مرحلة لاحقة بعد الغزو. وبغية إستمزاج رأي السياسيين العراقيين وبعض القادة العرب في مسألة بقاء الجيش من عدمه، فقد شكلت المخابرات المركزية الامريكية غرفتي عمل، الاولى تتولى الوقوف على رأي بعض الدول العربية بهذا الشأن، والثانية تتولى الوقوف على رأي قوى (المعارضة العراقية) بشكل شكلي.
كان موقف العائلة المالكة في الكويت هو أن الابقاء على الجيش العراقي هو خط أحمر لديها، وإذا كانت قد أخطأت من قبل في تقديراتها عندما هددتها السلطات العراقية المتعاقبة بالجيش مرات عديدة، فدفعت ثمنا باهظا عندما أبتلعها في الثاني من آب/اغسطس العام 1990، فأنها اليوم أكثر أصرارا على أمرين أما تفتيت العراق كله كي يتخلصوا منه كقوة كبرى، أو على أقل تقدير تفتيت الجيش وحلّه ومنع نشوئه من جديد. وقد كان الاتجاه الاخير يحظى بدعم بعض دول الخليج ونظام حسني مبارك. أما صانع القرار الاردني فقد كان مع قرار الحل، لاعتقاده بأن الجيش العراقي مبني على عقيدة كراهية أسرائيل، وأن أجواءه قد تصبح مرة أخرى مسرحا لصواريخ عراقية تطال أسرائيل، ولايريد أن يكون بين المطرقة والسندان، فينضغط العرش بين القوة العراقية والعدوانية الصهيونية. كما أنه يسعى لأن يكون قريبا من القرار الخليجي بهذا الشأن، لتصحيح وضع سابق حصل في أثناء أحداث العراق والكويت الاخيرة في العام 1990
وبغية الوقوف على رأي ما تسمى (المعارضة العراقية) في موضوع الجيش العراقي، وعلى الرغم من أنها كانت تُقاد أدارياً ولوجستياً ومالياً من قبل حلف المخابرات المركزية الامريكية والغربية، وأن الادارة الامريكية كانت قد أتفقت مع أسرائيل على ضمانة أمنها بالقضاء على الجيش العراقي، لكنها حاولت الاستئناس برأي هذه المعارضة، فتشكلت مجموعة عمل عراقية في فندق (دورجستر) في لندن لمناقشة هذا الموضوع وأعطاء رأي داعم لاغير، وكانت تضم عددا من الضباط العراقيين المنتمين للمعارضة، وكان المشرف على المجموعة وضابط الارتباط بينهم وبين مسؤولة محطة المخابرات في السفارة الامريكية في لندن، الجنرال دانيال الملقب (دان)، وبعد سلسلة من اللقاءات رأى الضباط المذكورين ضرورة حل الجيش العراقي وتأسيس نواة جيش عراقي جديد بعد الاحتلال، وقد تحدث أحد أفراد هذه المجموعة الى ضابط عراقي كبير برتبة لواء طيار في تشرين الثاني/نوفمبر العام 2002 وأبلغه أن قرار حل الجيش قد أُتخذ، وسيتم تشكيل سرية من مئة وثمانية أشخاص بعد الاحتلال لتكون بداية تأسيس جيش عراقي جديد، وكان هذا الرأي مدعوم بقوة من الحزبين الكرديين خاصة، التي نسقت مجموعة الضباط معهم قبل تقديم رأيها.
لقد كان قرار حل الجيش العراقي الذي أعلنه رسميا الحاكم الامريكي (بريمر) بعد الاحتلال، جريمة كبرى بحق الجيش العراقي كمؤسسة وطنية ودعامة أساسية قامت عليها الدولة العراقية، وهو أيضا جريمة بحق المجتمع العراقي الذي شكل الجيش أحدى شرائحه المهمة. كما أن القرار كان تسهيلا لكل عمليات الاغتيال والاختطاف والتهجير، التي مارستها أجهزة مخابرات دولية وأقليمية بحق ضباط ومنتسبي الجيش، بعد أن تم أنتزاع حق الدفاع عن النفس منهم والقائهم على قارعة الطريق، فكانوا أهدافا سهلة ذهبت معهم سنين طويلة من تراكم الخبرات القتالية والمهنية والعلمية، دفع الشعب العراقي في سبيل تحقيقها دماء كثيرة وأموال كبيرة على مدى سنوات طوال منذ عام التأسيس 1921 وحتى العام 2003. كما بات العراق بموقعه الجيوسياسي المهم قطرا صغيرا ضعيفا، عاريا من أي غطاء ذاتي تحتاج اليه الارادة الوطنية لتدعيم الاحساس بالانتماء، حتى باتت تتمدد حدود دول جواره الأمنية والسياسية بكل أجنداتها التخريبية، الى داخل مجتمعه كيفما تشاء ووفق ما تقتضيه مصالح أمنهم القومي.
وأذا كانت الدول تقضي عقودا طويلة من السنين، وتُسخّر موارد كبرى مادية وبشرية لتحقيق توازنات ستراتيجية فيما بينها، فإن المحتلين وأعوانهم دمروا عماد التوازن الستراتيجي للعراق والامة في المنطقة، وهو الجيش العراقي في هذا الظرف الدولي والاقليمي الحساس، حتى بات البلد اليوم سلعة تدخل في صفقات تتشاطر فيها أيران على الامريكان، والامريكان على أيران وهو فاقد الحول والقوة في هذه اللعبة الدولية القذرة. كما أن أية عملية إعادة بناء لجيش عراقي وطني وقومي في هذا الظرف الذي يمر به الوطن، باتت مهمة مستحيلة في ظل المناهج السياسية المتناقضة والمتحاربة على الساحة العراقية، والتي تحاول أنتزاع هوية الوطن الحقيقية وجعله مجرد مستوطنات سكانية هجينه لا يربط بين سكانها رابط عميق، مما سينعكس على القطعات العسكرية التي ستجد نفسها مجرد ميليشيات تُستخدم لمصالح طائفية ومذهبية، وقوة ضغط في الخصومات الحزبية. لقد تجلت عظمة الجيش العراقي في مدى أستيعابه الدروس الوطنية والقومية الخالصة، عندما اصبح عمودا فقريا للمقاومة الوطنية العراقية الباسلة، وأبى الا أن يضع جهده وخبراته في مصلحة الوطن. فأثبت مرة أخرى أنه قادر على منازلة القوى العظمى والحاق الهزيمة بها، على الرغم من جراحه النازفة.
القدس العربي
شبكة البصرة
الاثنين 22 صفر 1433 / 16 كانون الثاني 2012