الرحيل ومصادفات القدر مع تقويم الإعلام
الجــشي.. تـــاريـــخ مضـــيء ووطنيـــــة متجــددة
شاءت الأقدار أن يتزامن الشهر الذي توفي فيه حسن الجشي، مع الشهر الذي خصص له في تقويم وزارة الإعلام لهذا العام، والتي ارتأت أن تخصصه لمبدعي الحركة الصحافية في البحرين، وهي بذلك تكون قد خلدت جزءاً من ذكراه قبل انتقاله إلى الباري.
يعد حسن الجشي من الشخصيات التي انخرطت في الحياة الثقافية والأدبية والسياسية منذ سن مبكرة، فهو أدرك في فترة مبكرة من حياته أن البحرين يمكنها أن تُظهر كل مواهبه وعبقرياته وحيويته، وكانت خارطة الطريق عنده تبدأ من العمل التطوعي في الأندية، وتشمل العمل التربوي في المدارس، وتغطي النشاط السياسي الوطني، وتنتهي بالكتابة في الصحافة.
ولد الجشي في العام ,1920 وكان مكتوباً له أن يتبوأ مستقبلاً مضيئاً، ففي العام 1973 انتخب رئيسا لأول مجلس نيابي في البحرين. تنقل المرحوم في تحصيله العلمي بين دروس القرآن الكريم، الحساب واللغة العربية التي كانت دوماً هماً حاضراً في كتاباته الصحافية، كيف لا وهي المعبرة عن حلمه القومي الذي لا تخلو أياً من كتاباته من إشارات إليه.
في العام ,1939 بلغ الجشي سنته التاسعة عشرة، وساهم في هذه المرحلة العمرية المبكرة في تأسيس نادي العروبة في المنامة، وتبوأ منصب أمين سر أول مجلس إدارة له، وكما يشير الكاتب الزميل خالد البسام في كتابه (حسن الجشي… البدايات الشجاعة) ضمن سلسلة وزارة الإعلام لرواد الصحافة البحرينية، فقد أظهر الشاب في ذلك الوقت وطوال قيادته للنادي، شخصية فذة، وقدرة عجيبة على اجتذاب الناس، من خلال إلقاء الخطب الأدبية، وإنجاح تجمع ثقافي كبير ضم في صفوفه أدباء أمثال إبراهيم العريض وتقي البحارنة وغيرهما.
وبجانب نادي العروبة، كما يضيف البسام، راح الجشي ينشط في الجانب التربوي – وهو العمل الذي كان مصدر رزقه الأساسي – فعمل في بعض المدارس الحكومية، حتى ترقى وأصبح مديراً للمدرسة الغربية ''أبوبكر الصديق حاليا'' بالمنامة، حيث تميزت فترة إدارته للمدرسة برقي التعليم وصرامة التربية. أما على الصعيد السياسي، فإن الجشي شارك بفاعلية في حشد الجماهير وتوحيد صفوفهم عندما تفشت بعض الأحداث الطائفية المرفقة في البحرين العام ,1954 ثم ناشطاً سياسياً كبيراً في الحركة الوطنية بقيادة ''هيئة الاتحاد الوطني'' بزعامة عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان بعد ذلك.
«صوت البحرين»… ضوء آخر للتنوير
ولم تكن الهموم السياسية والتربوية قادرة على عزل هذه الشخصية عن بقية نواحي المجتمع، فقد أهلته مواهبه وقدراته على المشاركة في قطاع كانت البحرين والوطنيون والاصلاحيون في أشد الحاجة إليه وقتها، وهو قطاع الصحافة، فقد أدركت المجموعة الوطنية الشابة التي كان من ضمن قادتها الجشي نفسه، إنه لا إصلاح بدون توعية الناس، ولا إمكانية في التغيير وإنهاء التسلط الاستعماري إلا بامتلاك البحرينيين قوة المعرفة.
ونتاجاً لانخراطه في العمل الصحافي، صدرت مجلة ''صوت البحرين'' في منتصف شهر سبتمبر/أيلول من العام ,1950 وكانت تصدر مع بداية كل شهر عربي، واحتشدت صفحاتها بمقالات أدبية وفكرية وبعض المقالات المحلية تنتقد فيها الأوضاع في البحرين. ومع توالي صدور المجلة تبين للقراء أن الكاتب الأكثر نشاطا وتنوعا فيها هو حسن الجشي الذي كان يكتب أحياناً مقالات أدبية وعلمية وتربوية وفلسفية ووطنية طبعا، بعضها كان مختوماً باسمه، وغيرها كان يختمها بأسماء مستعارة مثل ''ح.ج''، ''ابن ثابت''، ''التحرير''، ''المحررون''.
ولم يقتصر دور الجشي على المساهمة في تحرير المجلة فقط، بل لعب دوراً مهماً في موضوع الطباعة، فبسبب تعثر طباعة المجلة في البحرين والكويت، اضطرت إدارة التحرير إلى ان تطبعها في مطابع الكشاف ببيروت.
ويمتدح الزعيم الوطني عبدالرحمن الباكر في مذكراته فضل الجشي في ''صوت البحرين'' فيقول ''ولأجل الحق والإنصاف، فإني أسجل هنا ا المجهود الجبار الذي بُذِل طوال الأعوام الأربعة في إبراز ''صوت البحرين'' في ذلك الثوب القشيب المليء بالحيوية والإعجاب، يرجع الفضل فيه إلى ذلك الشخص الذي كان يسهر الليالي الطوال، ويكافح ويجالد وهو صامت، بالرغم من مسؤولياته الجسيمة كمدير مدرسة ابتدائية، ذلك هو الأستاذ حسن الجشي''.
دور بارز في الوطنية ومواجهة الطائفية
كان للجشي، دور بارز في هيئة الاتحاد الوطني وكان وطنياً عروبياً، أسهمت المقالات التي كان ينشرها في (صوت البحرين) في إظهار جزء ليس بالقليل من ذلك المخزون الوطني والقومي
ففي أحد مقالاته التي حملت عنوان ''الطائفية علتنا الكبرى'' نبه الجشي من خطورة الطائفية في المجتمع وعلى السّلم الأهلي، فهو بعد أن شرح ماهية الجماعة والجماعات وصولاً للمجتمع، يرى الجشي أنه ''ليس في هذا البلد الصغير مجتمع، وإنما هناك طوائف وجماعات متنافرة متنابذة، يتلظى كل منها حقداً على الأخرى، وتسعى للكيد بها والنيل من كرامتها رغم ما نلمحه من صفاء كاذب بين الأفراد… فكأنما بين القيم ثارات، هذه حقيقة صارخة لا ينكرها إلا كل مكابر يتعامى عن الداء لأنه ألف داء''. ويؤكد في مقالته على أهمية تكريس الحرية الشخصية في المجتمع، وأن يعتنق كل فرد ما يشاء من العقائد، ولكنه يشدد في الوقت نفسه على ضرورة أن تنتهي تلك الحرية عند بداية صالح المجتمع، بحيث لا يجعل المرء من عقيدته عاملاً لتفكيك المجتمع. وينصح في ختام تحليله فئة الشباب بأن يقلعوا عن النزعات الطائفية الهدامة، وأن يباشر كل منهم بتطهير نفسه من رجس النزعات المذهبية.
وحدة الشعب سلاح بتار في مواجهة أعدائه
وضمن قراءاته للواقع السياسي المحلي، يراهن الجشي في موضع آخر، على أن الوحدة بين أطياف المجتمع هي السفينة الناجية بالوطن إلى رحاب أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية أوسع بكثير من تلك السائدة، سيما إذا ما وجه المتلاعبون بمقدرات المجتمع من أجل المصالح الخاصة التي وصفهما بالعدو الأول، فيما يؤكد على أن الطائفيين المندسين في صفوف الشعب هم العدو الثاني، ومسانديهم من مروجي الإشاعات الباطلة الساعون لإحباط أية محاولة للم الشعب وجمع الكلمة.
كان الجشي، يجمع بين مهمات التحشيد الاجتماعي عبر النادي والمدرسة، وبين مهمات الكتابة لتغيير النظام القائم وقتذاك، فمن الصعب الجمع بين إدارةِ نادٍ ومدرسة ابتدائية تغدو نموذجاً للضبط والتعلم، وبين مهماتِ الحركةِ الوطنية السياسية، ولكن هذا هو طابعُ الحياة الاجتماعية في بلدٍ وجدَ نفسَه يركضُ سريعاً نحو التحرر السياسي والتحديث والتوحيد الوطني. فلا عجب أن يقومَ كلُ كادر سياسي وطني بمهمات كثيرة في آنٍ واحد.
ولهذا نجدُ الجشي مشغولاً في الصباح بالضبط والربط والتثقيف في المدرسة، وفي المساء بمداولات النادي وتوسيع المشاركة فيه ونشر تأثيره التوحيدي الفكري بين الجمهور المشتت طائفياً، وعقد اجتماعات بين أقطاب الحركة الوطنية لاختيار أنجع السبل لتحريك الحياة السياسية التي يهيمن عليها المستشار بلجريف والمركز البريطاني، ومن ثم الإنشاء التدريجي الصعب لمطبوعة (صوت البحرين) التي تــُحرر في الداخل وتـُطبع في الخارج، وهي المطبوعة المراقبة، ولكن في الوقت ذاته المعبرة عن قضايا وثقافة مثقفين يندفعون بسرعة لقيادة حركة سياسية متفجرة.
مصادر
– حسن الجشي.. البدايات الشجاعة – خالد البسام
– حسن الجشي.. رائد حركة التنوير في البحرين – منصور سرحان – محمد كمال الدين
– تقويم وموقع وزارة الاعلام.
————————————-
كلمة رئيس المجلس الوطني حسن الجشي في العام 1973:
آن لهذا الشعب الذي كافح أن يقطف ثمار نضالـه
في أول مجلس نيابي بالبحرين، انتخب المرحوم حسن الجشي رئيسا له، وألقى بعد انتخابه العام 1973 خطابا هذا نصه:
صاحب السمو رئيس مجلس الوزراء، صاحب السمو ولي العهد ووزير الدفاع والقائد العام لقوة دفاع البحرين أصحاب السعادة الوزراء، حضرات الزملاء الأعضاء والضيوف. صدقوني إذا قلت لكم إنني كنت أؤثر أن أظل صوتاً يرتفع من بين صفوفكم منافساً ومحاوراً بحرية ودون قيد، ولكنكم أبيتم إلا أن تغمروني بفضلكم فتختاروني رئيساً لهذا المجلس الذي تشهده البحرين العريقة لأول مرة، فما كان مني إلا ان اقبل هذا التكريم لأنكم شئتم ذلك، ومشيئتكم من مشيئة الشعب الذي أوصلكم إلى هذا المجلس، وما اعتدت طوال حياتي إلا أن أكون حيث يريد الشعب، فأنا منه وإليه.
أيها الزملاء: ان الثقة الغالية التي وضعها فيَّ الشعب باختياري ممثلاً له في هذا المجلس تلقي عليّ من المسؤولية ما تنؤ به الكواهل، وها هي ثقتكم الغالية تجيء الآن لتضاعف من حجم هذه المسؤولية وتزيد من أبعادها، فأرجو أن تضعوا أيديكم في يدي لنعمل معاً على أن تسير هذه السفينة بروية وحكمة في رحلتها الطويلة، آملاً ان يتجلى خلالها التعاون الصادق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لخير هذا الوطن.
ان الذي يتحقق على أرض البحرين اليوم هو حلم الأجيال منذ أكثر من نصف قرن، وقد كان هذا الكفاح حرية وعدلا ومساواة، ولاشك ان ترجمة ذلك إلى واقع تحياه الجماهير هو الرسالة التي ائتمننا الشعب على أدائها بصدق وإخلاص.
إننا أيها الإخوة نستهل هذا اليوم عهداً جديداً من المشاركة الفعالة بين الشعب والحكومة في بناء بيتنا الكبير، فلتحشد كل الطاقات لإعلاء هذا الصرح، متسامين فوق كل النزعات الفردية والأهواء الضيقة والمطامع الخاصة، مكرسين كل جهدنا لبلوغ الأهداف التي من أجلها ندبنا الشعب إلى هذا المجلس ومحققين ما يزخر به وجدان الشعب من مطامح وآمال. أيها الإخوة، إنني أدرك أن العمل البرلماني يقتضي كثيراً من الاختلافات في وجهات النظر، ولكنني أدرك وأرجو أن أكون مصيبا في هذا الإدراك، إننا نختلف حول الوسائل وليس حول الغايات، ولذلك يمهني جداً أن لا نفسح المجال للحساسيات لتأخذ سبيلها إلى نفوسنا للبغضاء والكراهية، أن تغرز مخالبها في قلوبنا حرصاً منا على أن يسود الصفاء هذا المجلس، وحرصاً منا على أن تكون هذه التجربة رائدة في أسلوبها وفي مناقشاتها، بحيث تتناسب مع المستوى الحضاري والقيمة الثقافية التي تمثلها البحرين في هذه المنطقة من الخليج، وأن تتجاوز هذه التجربة دائماً ذاتها منتصرة ومنتقلة من انجاز إلى انجاز أكبر بقيادة سمو أميرنا المعظم الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وفي ظل الحكومة الموقرة التي يرأسها سمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة. ليكن أيها الإخوة شعارنا دائماً ونحن نتهيأ للانطلاق من أقبية الماضي إلى رحاب المستقبل في عملية جادة للحاق بركب التطور والدخول في عصر انتصار الإنسان، ليكن شعارنا ''إن أجمل الأيام هي التي لم نعشها بعد''، وبذلك نظل نلاحق هذه الأيام وهي تفلت من بين أيدينا لأننا ننشد دائما في هذه المسيرة الأمثل والأفضل.
أيها الإخوة
شكراً على الثقة الغالية..
ورجاء بان يكون النظام والتعاون هو ديدنا في هذا المجلس.
نشر في : صحيفة الوقت