أمس فقط اكتشفت جامعة الدول العربية ان الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس عن العراق كشفت جرائم ترقى الى مستوى "جرائم ضد الانسانية وانتهاكات ضد الشعب العراقي". هذا ما قاله أحمد بن حلي نائب الامين العام للجامعة، الذي دعا الى "متابعة ومحاسبة الذين ارتكبوا هذه الجرائم".
ليس هذا هو حال الدول العربية فقط، وانما حال كل دول العالم تقريبا وايضا المنظمات الدولية. بعد نشر الوثائق، بدا الكل في العالم كما لو كان قد فوجئ بأن هناك جرائم حرب ارتكبت في العراق، وكما لو ان هذا اكتشاف جديد يسمع العالم عنه لأول مرة.
من المذهل حقا ان يحدث هذا بعد اكثر من سبع سنوات من الغزو والاحتلال. اكثر من سبع سنوات، تابع العالم كله خلالها يوما بيوم وقائع ما تعرض له العراق من تدمير كامل، ومن قتل وذبح وتعذيب، وتشريد لاكثر من خمسة ملايين عراقي، ومن جرائم اغراق العراق في الصراع الطائفي وتقسيم فعلي.. الى آخره.
وخلال السنوات الماضية، نشرت عشرات التقارير والوثائق التي توثق جرائم الحرب والابادة في العراق وابعادها ووقائعها الكاملة. وقد سبق لي ان طرحت ابعاد قضية جرائم الحرب في العراق تفصيلا في اكثر من تحليل مطول.
ومع كل هذا، الكل يتظاهر اليوم بأنه فوجئ بأن هناك وثائق تكشف ارتكاب جرائم حرب.
ومع هذا، لنفترض ان الدول العربية ودول العالم كله قد افاقت فجأة بعد نشر هذه الوثائق، واكتشفت انها قصرت بحق الشعب العراقي طوال السنوات الماضية بصمتها عن الجرائم التي ارتكبت بحقه، وارادت تصحيح هذا الوضع.
لا بأس في هذا. لكن الأمر الغريب جدا هو الموقف الذي تتخذه الدول العربية ودول العالم ومنظماته والامم المتحدة نفسها بعد نشر الوثائق، وبعد كل جرائم الحرب التي كشفت عنها. هذا الموقف يتلخص في امر واحد، هو دعوة الادارة الامريكية والحكومة العراقية الى التحقيق فيما تضمنته الوثائق من وقائع.
في حقيقة الامر، هذا مطلب في غاية السخف والاستفزاز. الامريكان واتباعهم في العراق الذين يحكمون بعد الاحتلال هم الذين ارتكبوا كل هذه الجرائم التي تفصلها الوثائق. فما معنى مطالبة هؤلاء بالتحقيق؟.. معناه مطالبة المجرمين بالتحقيق مع انفسهم، وفي الجرائم التي ارتكبوها هم.. هل هناك سخف واستفزاز اكثر من هذا؟
لو كانت دول العالم تريد العدل والانصاف للشعب العراقي حقا، لكانت الامم المتحدة هي التي بادرت بفتح تحقيق دولي في جرائم الحرب والابادة التي ارتكبها الاحتلال في العراق.
لو كانت دول العالم مهتمة حقا بمحاسبة المجرمين، لكانت قد اجبرت المحكمة الجنائية الدولية، التي تفرغ رئيسها المشبوه اوكامبو لملاحقة السودان والدول الافريقية فقط، على ان تبادر هي بفتح تحقيق في جرائم الحرب والابادة في العراق بناء على هذه الوثائق الامريكية.
حقيقة الامر ان هذا الموقف المخزي الذي اتخذه العالم بعد نشر الوثائق هو في حد ذاته جريمة كبرى بحق الشعب العراقي.. تردد العالم في المطالبة الصريحة بالمحاكمة الدولية لمجرمى الحرب هؤلاء، واتخاذ خطوات فعلية في سبيل ذلك، هو بحد ذاته جريمة.
واذا كنا ننتقد دول العالم ومنظماته الكبرى بسبب هذا الموقف، فان الانصاف يقتضى ان نسجل ان الجريمة هي بالأساس جريمة عربية. نعني ان الدول العربية من المفروض ان تكون هي المعنية قبل أي احد آخر في العالم باتخاذ اجراءات عملية نحو المطالبة بالمحاكمة الدولية لمجرمي الحرب في العراق واللجوء الى كل السبل الممكنة لتحقيق هذا الهدف.
لهذا، فان الدول العربية باحجامها عن ذلك وبموقفها المائع المخزي، فان جرمها اكبر بكثير جدا من جرم أي احد آخر في العالم.
حقيقة الامر ان هذا الموقف هو عار على كل الدول العربية وكل العرب. أي عار اكبر من ان يتم ارتكاب كل جرائم الحرب والابادة هذه وعلى امتداد كل هذا السنوات بحق الشعب العربي في العراق؟ وان يقرأ العالم تفاصيل هذه الجرائم في الاف الوثائق الامريكية، ورغم هذا لا تحرك الدول العربية ساكنا، ولا تفعل شيئا على الاطلاق لمحاكمة هؤلاء المجرمين؟
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.