جل الكتابات التي رثت رحيل المفكر الكبير الدكتور محمد عابد الجابري، تناولت مشروعه نقد العقل العربي. وأغفلت الحديث عن قضايا أخرى مهمة تناولها الراحل الكبير. مرد ذلك، هو دون شك، الجدل الذي أثاره مشروعه عن العقل العربي، في أوساط مختلف التيارات الفكرية العربية.
كان مشروع نقد العقل العربي، قد تناول التراث العربي، في حركته بعد أن حدد زمنه "منذ الجاهلية إلى اليوم". معتبرا هذا النقد خطوة جوهرية على طريق التقدم وجزء أساسيا من مشروع النهضة العربية. إن العقل الذي مارس نقده، هو عقل تشكل داخل الثقافة العربية، وعمل على إعادة انتاجها في حلقات مستمرة. وهدف النقد هو التحرر من إسار القراءات المألوفة، ومواصلة النظر في المعطيات الثقافية العربية بمختلف تفرعاتها، دون التزام بما هو راسخ من وجهات نظر.
إن المنهج الذي اتبعه الجابري في نقده للعقل العربي، هو تقسيم مراحل تطوره إلى منظومات فكرية، ذات علاقة مباشرة بالتطورات التاريخية التي أخذت مكانها في الساحة العربية الإسلامية. والجابري، رغم ما يبدو على السطح من التزامه بالكانطية، ومحاولته لقراءة تطور الفكر العربي، من داخله، دون إسقاطات الواقع المجتمعي عليه، فإن القراءة الأمينة لمنهجه توضح أنه لم يتمكن من الفكاك من ربط الفكر بالتطور التاريخي والمجتمعي للحضارة العربية الإسلامية.
إن التحقيب الذي انتهجه الجابري، عبر مجلداته الأربعة، للثقافة العربية منذ بزوغ الإسلام، حتى قيام دولة الموحدين، وبروز فلسفة ابن رشد، والذي حدده في ثلاثة مراحل: العرفان والبيان والبرهان، هو ليس تحقيبا للفكر فحسب. بل هو أيضا في جانبه الآخر، رصد للاسقاطات المتبادلة، والتفاعل الخلاق بين الفكر وبيئته ومناخاته. وقد أوضح ذلك بجلاء، حين أكد أن ما يهمه في مشروعه نقد العقل العربي، ليس الأفكار ذاتها، بل الأداة المنتجة لهذه الأفكار، لكنه يمارس نوعا من المخاتلة هنا، فيميز بين الفكر كمحتوى، والفكر كأداة لانتاج الأفكار.
إن هذه المخاتلة تتبدى واضحة عند الحديث عن العلاقة بين اللغة والفكر، وبين الابستمولوجي والآيديولوجي، في تكوين الثقافة العربية. هذه العلاقة، في واقع الحال، هي استجابة لمتطلبات وإرهاصات اختمرت في بنية الواقع العربي، وادت به إلى لعب الدور الإنساني، الذي مثلته حضارة العرب. ومرة أخرى، يتكشف تخطيه للكانطية، عند رفضه اعتبار الدراسات الاستشراقية، على اختلاف تواجهاتها، جزءا من الثقافة العربية.
ومرة أخرى، يشير إلى أن طريق التقدم يقتضي أن تتحول الأمة من أمة تراثية، إلى أمة بتراث. بمعنى أن لا يكون التراث عبئا على حركة الأمة وتطورها. وفي حديثه عن إعادة تركيب المفاهيم، يشير إلى أنه لا يكفي استيراد المفاهيم من مصدرها "الأجنبي"، بل ينبغي العمل على تبيئتها محليا، بمفاهيم معاصرة، تتناسب مع المضامين التي استخدمت في الأصل.
في كتابه "إشكاليات الفكر العربي المعاصر" وتحت عنوان كيف نفهم العلاقة بين الفكر والواقع، يؤكد الجابري، قبوله أن المفكر السياسي أو المثقف، "لا يعبر عادة عن قيمه الخاصة، بقدر ما يعبر بطريقة شعورية أو لا شعورية عن قيم جماعة اجتماعية أكبر ينتمي إليها، وفي كثير من الحالات عن طبقة اجتماعية يدافع عنها". لكنه في ذات الوقت يرى أن هناك استقلالا نسبيا، بين الفكر والواقع. ولذلك يطالب بالتمييز، في الفكر ذاته، بين مستويات تتفاوت في استقلالها النسبي عن الواقع. إن الاعتراف بالربط الجدلي بين الفكر والواقع، المستند على التسليم بنسبية استقلال الفكر، حتى في أكثر القضايا التصاقا بالواقع، كالفكر السياسي والفكر الاجتماعي، يفرض وجود مسافات تفصل الفكر عن الواقع، وتجعله مرشدا للحركة التاريخية، حتى وإن كان ذلك على مستوى التجريد وسلم الزمن والتاريخ.
هكذا كان الجابري ناقدا للتاريخ، ومفكرا مؤمنا بالمستقبل، ومكافحا بفكره ووجدانه عن حق الأمة العربية، في النهضة والتنمية والتطور. إن الجابري يفصح عن ذلك، بشكل لا جدال فيه، في نهاية مقدمته لكتاب تكوين العقل العربي، معبرا عن انتمائه إلى واقعية جديدة. فقد أوضح أنه يسعى من خلال نقده للعقل العربي، إلى أن تكون غاية النقد هي التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي". والهدف كما يوضح الراحل، هو "فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها، وتعيد فينا روعها" والأمل أن تفعل ذلك فينا قريبا.
لم تكن قراءة الجابري للتاريخ، معنية بالتاريخ فحسب، بل بالمستقبل من خلال تحريض العرب على استئناف دورهم. ولم يكن التراث هو جل اهتمام راحلنا الكبير. فقد كتب عن الحاجة إلى الإصلاح. وطالب بإعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر. وناقش العلاقة بين التراث والحداثة. وحين كتب عن سيرة ابن رشد وناقش أفكاره، في كتاب مستقل، ثم قام بمراجعة لكتاب تهافت التهافت، فإنه أشار إلى أنه بذلك ينتصر للروح العلمية ولتأسيس أخلاقيات الحوار. وحتى في "المثقفون في الحضارة العربية.. محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، كان الهم الأساس، هو موضوع الحرية ومشكلاتها، والانفصام الحاصل في التراث العقلاني العربي، بين تقديس العقل وقمع الحريات، الذي جسدته بوضوح محنة الإمام ابن حنبل، في عهد الخليفة العباسي المعتزلي، المأمون.
كتب الراحل الجابري أيضا، عن مشاكل التعليم في المغرب، وعن فلسفة العلوم، وقدم قراءات نقدية لبعض المشكلات الفكرية والتربوية المعاصرة، من منظور تقدمي. وأسهم في تقديم رؤية معاصرة عن علاقة العرب بالتراث. وألف كتابا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومسألة الهوية والعروبة والإسلام. كما قدم مراجعة نقدية للمشروع النهضوي العربي، الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية. وناقش موضوع الدين والدولة وتطبيق الشريعة. وكتب في الفكر المعاصر، والعولمة وصراع الحضارات، والعودة إلى الأخلاق والتسامح ونظام القيم، والفلسفة والمدينة. وتناول سيرته الذاتية في كتاب حفريات في الذاكرة. وجميعها تعكس الخصب والتنوع في عطاءات وإبداعات الراحل الكبير، الحاضر أبدا بنبراس فكره.
رحل الجابري إلى العالم الآخر، وهو لما يزل مبدعا ومفكرا معطاء. حيث اعتاد مريدوه ومحبوه، باستمرار على تلقي المزيد، من عطاءاته وإبداعاته.
وودعنا الراحل الدكتور الجابري، فارسا للكلمة والفكر، قبل أن يحين موعد ترجله… رحم الله الفقيد، وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وأصدقاءه وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.
editor@arabrenewal.com