الثورة: عنفوانُ البدايات وتواضُع النهايات
عبد الاله بلقزيز
أسوأ شيء أن يناضل المرء عن قضيةٍ عادلة بعقلٍ مُغَفل، فتأتي ثمْرات نضاله عنها لتقع في سِلال آخرين لم يبذروا بِذَاراً، ولا سَقَوْا بالعرق والدّم نَبْتَةً، ولا صبروا وصابروا انتظاراً لبِشارة الميلاد، إنما جاءوا في الهزيع الأخير من الموسم كي يحتصدوا لهم ما ازْدَرَعَه الآخرون! وما أكثر الأعصر والأمكنة والثوْرات التي حصل فيها هذا النوع من عدم التناسب، بل من التجافي، بين المقدمات والنتائج، بين نضال شعبٍ عن قضية ومآلات نضاله عنها! فما استجر ذلك على النفس سوى الشعور بالخيبة والحسرة والمرارة . . بعد أوانٍ فاتَ وأمرٍ قُضِيَ .
تُشبه هذه الحال حالاً أخرى نظيرةً وصفها ماركس وإنغلز وهما يحلّلان الديناميات العميقة التي يتطور التاريخ الإنساني بمقتضاها . يقضي التناقض المحتدم بين قوى الإنتاج المتسارعة وعلاقات الإنتاج الكابحة بكسر إطار هذه العلاقات الإنتاجية وإرساء أخرى متناسبة وتطور قوى الإنتاج . هذا معنى الثورة عندهما . وترجمتها السياسية أن صراعاً طبقيّاً يجري، داخل البنية الاجتماعية، بين الطبقتيْن الرئيسَتين اللتين يرشّحهما موقعهما في عملية الإنتاج لأن تكونا الطبقتيْن الأساس . وهذا قانون سرى مفعوله في نظرهما في المجتمعات التي سادت فيها أنماط الإنتاج العبودية، والإقطاعية، والرأسمالية . لكن التاريخ جرى بغير ما تقتضيه مصالح الطبقات المحرومة من وسائل الإنتاج والمعرضة للاستغلال، إذ لم ينجح العبيد في تحطيم النظام العبودي وإقامة النظام الاجتماعي الاقتصادي البديل، وإنما نجحت طبقة الإقطاعيين في بناء نظامها وإقامة سلطتها . ولم ينجح الفلاحون في تحطيم النظام الإقطاعي والصيرورة طبقة مسيطرة في النظام الجديد، وإنما ورثت البرجوازية نضالهم وسرقت ثمراته . ثم لم تنجح البروليتاريا في حصاد نضالاتها والصيرورة طبقة مسيطرة في “النظام الاشتراكي”، بل سيطرت الطبقة الوسطى (البرجوازية) وقادت النظام . . . إلى حتفه!
هل هذا من مَكْر التاريخ إذ “تشْمت” حقائقُه في البشر وإراداتهم، أم مِنْ غفلة مَن ينتوون التغير، ويخوضون فيه بسخاء فَيلْفَوْنَ أنفسهم ما فعلوا غيرَ أنِ استبدلوا زيْداً بعمرو، فأتاهم مِنَ الأمْر خطبٌ ما حسبوه؟
ليس التاريخ قدراً أعمى يَفْجَأ ويأخذُ الناسَ غِلابَاً، إنه الناسُ، والعلاقاتُ، والمصالحُ، والأفكارُ، والإراداتُ، وقد تقابلت وتصارعتْ وانْحَكَمَتْ بقانون القوة . وهو يتغيّر، قطعاً، كلما توفّرَتِ القوة الاجتماعية القادرة على تغييره . ولأن التاريخ اليوم، ومنذ زمنٍ سحيق، مجتمعاتٌ ودول، فقد باتتِ السياسةُ ميدانَ تغييره أو تثبيته في الوضع القائم . والسياسة لا تسير بمقتضى الإرادة حصراً، ولو أن هذه من مقوّماتها، وإنما تنتظمها قوانين وعلاقات أخرى كالوعي، والحامل الاجتماعيّ، والرؤية الجامعة، والمشروع السياسي، والتنظيم الاجتماعي للقوة (الأداة الوظيفية) . . إلخ . ومتى تُجُوهِلَ هذا كله وانْصُرِف عنه إلى التشديد على عاملٍ وحيد كالإرادة، انتهى التغيير إلى عكس ما سَعَى فيه دعاتُهُ وكتائبُه الاجتماعية الأولى التي أطلقته! وكم من مرةٍ في التاريخ كان على الإرادوية أن تدفع ثمن حساباتها السياسية الميتافيزيقية، فتقذف بنفسها في “غَيْب” سياسيّ يعود بها إلى عالم الشهادة ليقيم عليها الحجة من نفسها .
ما يجري منذ قرابة العام، بمناسبة ما يُسَمى في الصحافة الأمريكية والأوروبية ب “الربيع العربي”، يشهد بشيءٍ من “مكر” التاريخ ذاك! ناضل ملايين الشباب والمواطنين العرب عن قضية عادلة هي الحرية والديمقراطية، وتدفقوا إلى الشوارع والساحات العامة، فاعتصموا لأسابيع وأشهر، وواجهوا قوات الأمن المدججة بالرصاص والقنابل المُدْمِعة، وسقط منهم الشهداء والجرحى، وسِيقَ منهم مَن سيق إلى السجون . كانوا وحدهم هناك حين اختفتِ الأحزاب والمنظمات، أو حين ذهبت تتحاور مع الأنظمة . ثم ما لبثت أن انضمّت إليهم وانتشرت واتسع نطاق تأثيرها مستفيدةً من حالة الفراغ التنظيمي والرؤيويّ والبرنامجيّ التي كانت تعانيها الحركات الشبابية العربية . وحين أزف موعد الحصاد السياسي، حصدت نتائج ما زرعه الشباب . كانت قسمةً ضيزى تلك القسمة التي حصلت بين الفريقين: أطاح الشباب الأنظمة القائمة، وأتى مَن يرثُها في السلطة من خارجهم . “العدل” الوحيد، الشكلي، في هذه القسمة أن الشباب أسقطوا أنظمة لا يملكون القيام مقامها، وأن الآخرين الذين لم يكونوا يملكون إسقاطها باتوا يملكون القيام مقامها . نَابَ الشباب عن الأحزاب في تدمير سلطة، وتنوب الأحزاب عن الشباب في إقامة سلطة .
هذه الكلمات تختصر مشهد ما جرى منذ عشرة أشهر في غير بلدٍ من بلدان الانتفاضة والثورة في الوطن العربي . ليست دعوةً إلى النظر بعين اليأس والخيبة إلى ما جرى، ولا إلى تلاوة فعل الندامة عن عدم إمساك مصير الثورة من قِبَل من أطلقوها ابتداءً، وإنما هي دعوة إلى عدم الإفراط في التفاؤل، وإلى عدم الإمعان في ركوب حماسةٍ لا نملك السيطرة على نتائجها . بدأتِ الثورة بالأحلام الكبيرة التي لم تكن تَسَعُهَا لغةٌ تقولُها، وتنتهي اليوم بما تنتهي إليه من الْتباسات مصيرٍ ديمقراطيّ غامض . بين البداية والنهاية وقعت أشياء كثيرة سيحين الوقت الذي سيكون علينا جميعاً أن نحاسب أنفسنا فيه على تقصيرٍ، وأخطاء، وارتكابات، وارتكابات مضادة، أخذتِ الثورة إلى مكانٍ غيرِ مريح .
هل قُضيَ الأمرُ واخْتُطِفتِ الثورة من القوى الشبابية التي أطلقَتْها؟
مازال أمام قوى التغيير فرصة لتصحيح المسار، واستعادة ما ضاع منها، إن أفلحت في إعادة تنظيم نفسها، واشتقاق الرؤية السياسية المناسبة .
الخليج الإماراتية :الاثنين ,28/11/2011