الثورة الولود
عبد الحليم قنديل
ربما لا تكون “الثورة الثانية” هي الأخيرة من نوعها في مصر، فنحن بصدد ثورة متسلسلة أو “ثورة ولود”، والأسباب ظاهرة في طبيعة النظام السرطاني، ثم في طبيعة الثورة ذاتها.
لن نتوقف كثيرا عند عناوين النبوءات، فقد توقعنا الثورة الأولى في مصر، وبذات الطريقة، وفي ميادين التحرير التي جرت فيها، ومع انتصار الثورة الأول في 11 شباط/ فبراير 2011، وفور خلع رأس النظام، قلنا أننا بصدد نذر الثورة الثانية، ونقول الآن وبوضوح أن هذه ليست آخر الثورات، وأن نذر ثورة ثالثة تجتمع عند مفارق الطرق، وأن انتخابات البرلمان وانتخابات الرئاسة لن تكون نهاية القصة، فقد تنتهي الانتخابات إلى سلطة إجرائية ما، تجلس على الكراسي وتجهل المراسي، لا تملك فرصة التحكم بمجريات الأمور، ولا أن تنتهي بالمشهد المصري إلى سيرة ختام، صحيح أن الديمقراطية مطلب جوهري للثورة.
وأن إزاحة عوائق الاستبداد، وفتح الطريق لحكم القانون وتداول السلطة والتعددية الفكرية والسياسية، كل ذلك طلبته الثورة، وسعت إليه أجيال وراء أجيال، وأصبح ممكنا وجاريا، لكن قضية الثورة أبعد من مجرد بناء نظام ديمقراطي تداولي، فدواعي الثورة في مصر أوسع وأعمق، ومحنة مصر لم تكن في الاستبداد السياسي وحده، إنها محنة انحطاط تاريخي كامل الأوصاف، محنة بلد عظيم خرج بالكامل من سباق العصر، وتداعت صروحه الصناعية والزراعية والإنتاجية الكبرى، ونزل غالب أهله إلى ما تحت خط الفقر والبطالة والعنوسة وإهدار الكرامة الوطنية.
وتعرض خلال الأربعة عقود الأخيرة لأبشع عملية تجريف طاقات، وجرى نهب موارده كما لم تنهب في تاريخ مصر الألفي، وصار الأول عالميا في مراتب البؤس والمرض، فمصر هي الأولى عالميا في مرض الالتهاب الكبد الوبائي، وهي الأولى عالميا في مرض الفشل الكلوي، والأولى عالميا في ضحايا حوادث الطرق، وتفاوت الثروات فيها مخيف، ففي مصر أغنى طبقة في المنطقة العربية، وفيها أفقر شعب في المنطقة، ومحنة البلد العظيم كانت وراء ثورته العظمى، والتي يحاولون تقييدها وحصارها، وجعلها كزوبعة في فنجان، لكنها تتأبى على الخضوع والتقييد، وتتفجر في وجوههم بثورتها الثانية الجارية، والثالثة التي في الطريق .
خلعت مصر بثورتها العظمى رأس النظام، وفي ثمانية عشر يوما لا غير، كانت الثورة في صورة دراما شعبية هائلة، ولكن بغير قيادة مطابقة، فلم تحكم الثورة، وحكم المجلس العسكري، وهو جزء لا يتجزأ من نظام مبارك نفسه، وعبر تسعة شهور بعد الثورة، أبدى المجلس العسكري في البداية تسليما بشرعية الثورة، ثم ظهرت عليه علامات التباطؤ فالتواطؤ، ودخل في صدام مفتوح مع المطالب المباشرة للثورة، والتف عليها بقصد إجهاضها، وإعادة التمكين لنظام مبارك في المبنى والمعنى، وبالتوافق مع جهات إقليمية ودولية كارهة للثورة، وخائفة من مضاعفاتها.
وانتهى الأمر بالمجلس العسكري ـ في جملة قراره ـ إلى وضع يسئ لسمعة القوات المسلحة المصرية، انتهى المجلس العسكري إلى وضع القيادة الأمامية للثورة المضادة، وتصور أن بوسعه أن يلهو مع قوى سياسية قديمة، وأن يشاركها في كعكة حكم، تحفظ الامتيازات والمصالح والاتفاقات الموروثة عن نظام مبارك ذاته، وبدا أننا أمام انقلاب كامل على الثورة الأولى، وأن قوة الدفع الثوري تبددت، لكن مصر التي خدعت مبارك خدعت مجلسه العسكري أيضا.
وفجرت ثورتها الثانية في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، ومن ميدان التحرير نفسه، ورفعت الكارت الأحمر في وجه المشير كما رفعته في وجه مبارك، وبدت المشاهد كأنها تكرر نفسها، نظام مصاب بسعار أمني، ويقتل الثوار بالجملة، وعلى ظن أنه يطفئ النار، فتتسع دائرة الثورة، وتتصاعد مطالبها، ويرتعب المجلس العسكري كما ارتعب مبارك، ويتلعثم في خطاباته الأخيرة، ويقدم تنازلات لا تخدع الناس، ويبحث عن جهة صديقة يفوضها، كما فوض مبارك مجلسه العسكري في لحظة الرحيل.
ولا يبدو تعهد المجلس العسكري، ولا وعده بتسليم السلطة للمدنيين هو نهاية الشوط، فهب أن برلمانا قد جرى انتخابه، وهب أن دستورا قد وضع على وجه العجلة، وهب أن رئيسا قد جرى اختياره، وكل ذلك ممكن وارد جدا في الشهور المقبلة، هب أن ذلك كله قد حدث، فهل تنتهي قصة الثورة؟، الجواب المباشر عندي بالنفي، والسبب ظاهر، فالقوى القديمة والشخوص القديمة تحاول تصدر المشهد، وبتفاهم ظاهر مع الأمريكيين المحتلين لمصر سياسيا، وبتعهدات تحفظ سلام الخضوع لإسرائيل، وباقتصاد ريع تحكمه شريعة السوق المنفلت، وبتحكم طبقة تسكت على نهب الثروات، وتجريف القواعد الإنتاجية، ولا تبالي بعذابات الكتلة المصرية الغالبة، ولا بأشواقها ومصالحها، وهذه عقيدة اليمين الإسلامي كما اليمين الليبرالي، وعقيدة أغلب المرشحين المحتملين للرئاسة باستثناء واحد أو اثنين، أضف إلى ذلك احتمالا بترشيح جنرال عسكري للرئاسة، وهو ما يعني ببساطة تكريس فكرة الانقلاب على الثورة، وتجديد اختيار مبارك في المظهر مع بقائه في الجوهر، والسبب في الحالة المتوقعة واضح جدا، فقد جرى اختيار أسوأ نظام انتخابي في الدنيا الديمقراطية كلها، والنتيجة: خفض نسبة التصويت، وحجز المقاعد لفرقة ناجية تستقوي بالمال والعصبيات وتزوير شريعة الإسلام، وهو ما يجعل البرلمان المتوقع هو الأسوأ بامتياز، والأبعد عن روح الثورة وجذرية دواعيها وأهدافها، وهو ما قد يحدث صدمة هائلة في المجتمع المصري، ويجعل من السلطة المنتخبة بقاعدة ضيقة هدفا للنقد والنقض، ويتكون مشهد فريد تعجز فيه سلطة الإجراء، وتصعد في مواجهتها سلطة الشارع، وبإضراباتها ومظاهراتها التي لن تنقطع، وربما بإنكارها لنتائج الانتخابات نفسها، وهكذا سوف تجتمع نذر الموجة الثالثة للثورة، أو الثورة الثالثة، وفي ظروف فرز واستقطاب سياسي واجتماعي حاد، ومع صعود لحركات إلى يسار المجتمع الذي أهلكه يمينه الإسلامي والليبرالي، وفي هذه اللحظة قد تعتدل الموازين، وتجد الثورة رأسها الذي ولدت بدونه، وفي صورة حلف وطني جامع لنزعات تجديد متعدد الموارد، يجمع الناصريين والإسلاميين الراديكاليين المفارقين لجماعات اليمين، ويتسع لنزعات يسارية وليبرالية ذات التزام وطني اجتماعي، وقتها تكون “التالته تابته” كما يقول المثل العامي المصري، وتكون الثورة في مكان القيادة لا في وضع الضحية.