بينما يجتاز الانهيار المالي حدود الولايات المتحدة لكي يضرب اقتصاد دول أخرى تنهمك مراكز بحوث عديدة في العالم في استطلاع آثاره المحتملة على الأوضاع السياسية في العالم. على هذا الصعيد تنشط المقارنات بين الأزمة المالية الراهنة والأزمة التي بدأت من العشرينات من القرن الفائت في وول ستريت ثم انتشرت خارج الولايات المتحدة. وتثير هذه المقارنات الكثير من التشاؤم في نفوس الذين يذكرون تلك الأيام. فالإعصار المالي أتى على مدخرات ومداخيل الملايين من ابناء الطبقات المتوسطة والعمالية في المجتمعات الصناعية، وأثار موجات عاصفة من البؤس الاجتماعي في الولايات المتحدة وأوروبا. واجتاحت هذه العاصفة الهياكل السياسية التي بنتها الأحزاب الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية في القارة الأوروبية. وكان أعظم المستفيدين من هذه المتغيرات الأحزاب العنصرية والدكتاتورية الأوروبية التي تمكنت من الاستيلاء على المواقع الحكومية في اكثر دول القارة.
تلك الذكريات تجعل الكثيرين يتخوفون من أن يكرر التاريخ نفسه وأن تشهد اوروبا صعود موجة جديدة من الأحزاب العنصرية. ويراقب البعض بقلق الانتخابات النمساوية الأخيرة التي حاز فيها حزبا اليمين المتطرف (الحرية والمستقبل) على ما يقارب من الثلاثين في المائة من مجموع الناخبين، وقبل هذه الانتخابات تمكن حزب الشعب اليميني المتطرف في سويسرا من الحصول على نسبة عالية من الأصوات ومن المقاعد النيابية. ولقد سجلت الأحزاب اليمينية المتطرفة هذه النجاحات الانتخابية بحملاتها القوية ضد المهاجرين من الدول العربية وتركيا بصورة خاصة. ويخشى الذين يتابعون نتائج الانتخابات في البلدين أن تتمكن هذه الأحزاب، كما حدث في العشرينات، من ترسيخ نجاحاتها السياسية عبر إثارة مشاعر قومية متعصبة وضيقة تحت ستار حماية الاقتصاد القومي من الأزمات الخارجية.
إن انتشار موجة جديدة من النزعات العنصرية التي تلبس رداء القومية المشروعة على الصعيدين الأوروبي والدولي محتمل ولكنه ليس حتمياً. إن قدرة المجتمع الدولي على صد هذه الموجة المحتملة مرهونة الى حد بعيد بطبيعة ردود فعل القوى الدولية الفاعلة على الأزمة المالية الأمريكية. على هذا الصعيد تكتسب الاستنتاجات التي خرج بها واحد من كبار المسؤولين الألمان أهمية خاصة. فإعلانه بأن "زمن هيمنة قوة اقتصادية واحدة (الولايات المتحدة تحديداً) على الاقتصاد العالمي قد انتهى" يقدم تفسيراً سليما لمعضلات الوضع الدولي الراهن لأنه يربط بينه وبين الأزمات التي تلم به، كما انه يلقي ضوءاً على الطريق المناسب للخروج من هذا الوضع وللخلاص من معضلاته المتفاقمة. ما لم يقله الوزير الألماني رغم أنه قادر على تقديم أدلة كثيرة عليه هو إن انتهاء هيمنة قوة واحدة على الاقتصاد العالمي يقتضي التعجيل في الانتقال الى مجتمع التعددية الدولية. وهذه التعددية لا تقتصر على الاقتصاد وحده وإنما على السياسة أيضاً. والانتقال الى التعددية الدولية يعني ولادة عالم الأقاليم الذي يضم عدداً محدوداً من الكيانات السياسية الكبرى المتساوية نسبياً من حيث طاقاتها المادية والبشرية والمتعايشة مع بعضها بعضاً في اطار الشرعية الدولية.
إذا كان من الصعب الجزم بأن مرتكزات هيمنة قطب دولي واحد على العالم قد تهاوت إلى الأبد، فإنه أصبح متعارفاً عليه أن هذه المرتكزات باتت تنسل الواحدة تلو الأخرى من يد هذا القطب الأمريكي. صحيح أن بعض القوى المحافظة والمناهضة للتغيير والتقدم في وول ستريت والبيت الأبيض والبنتاغون تبذل كل جهد من أجل إبقاء خيوط الزعامة الدولية في واشنطن، بيد ان هذه الجهود اذ تلجأ إلى أساليب ومبادرات "خارج الشرعية الدولية"، كما وصف كوفي أنان الحرب على العراق، تدفع ببلادها وبالعالم للسير على طريق شديد الوعورة وحافل بالاحتمالات الكارثية كما نرى في الأزمة المالية الراهنة.
سيرا على هذا الطريق، تقف القوى المحافظة في المؤسسة الأمريكية الحاكمة ضد انتشار ونمو وتعميق المنظمات والتكتلات الإقليمية في العالم. فعندما عصفت بآسيا في نهاية التسعينات ازمة اقتصادية طاحنة، كما هو الأمر في الولايات المتحدة، تداعى بعض الزعماء الآسيويين إلى تأسيس صندوق نقد آسيوي لمعالجة الأزمة، عارض الأمريكيون هذه المبادرة وبذلوا جهداً قوياً من أجل إحباطها. وإزاء كل تكتل إقليمي مستقل نابع من المنطقة، سعى المحافظون والأحاديون في واشنطن الى هندسة تكتل دولي تقوده الولايات المتحدة بالتعاون مع وكيل إقليمي من أجل احتواء وتذويب التكتلات الاقليمية المستقلة.
واتسع نطاق هذه السياسات الى حد أنه بات يستهدف تكتلات إقليمية ساهم الأمريكيون في تأسيسها مثل الاتحاد الأوروبي الابن الشرعي للسوق الأوروبية المشتركة التي ساهم مشروع مارشال في وضع أسسها. وأطلت معالم هذه السياسة مجددا خلال شهر ايلول/ سبتمبر الفائت في اعقاب الاستفتاء الذي أجرته الحكومة الايرلندية على "معاهدة لشبونة" المتعلقة بالإصلاحات الدستورية المقترحة على الاتحاد الأوروبي. ولقد جاءت نتائج الاستفتاء لغير صالح المعاهدة فكانت ضربة قوية إلى الاتحاد الأوروبي، إذ أدت هذه النتيجة إلى الحيلولة دون تطبيق هذه الإصلاحات على النطاق الاتحادي. وتبين فيما بعد، كما جاء في صحيفة "هيرالد تريبيون الدولية" (26/09/2008) ان إدارة بوش دعمت معارضي المعاهدة وقدمت لهم مبلغاً مالياً كبيراً ساعدهم على إيقاف عجلة الاندماج الأوروبي.
ان هذه المواقف سوف تعقد الأجواء الدولية وترافق عملية بناء التكتلات الإقليمية بأجواء مشحونة بالعداء والتوترات خارج المسرح الأطلسي. وفي مثل هذه الأجواء تتراجع المساعي والجهود التي تقوم بها أطراف دولية إصلاحية من أجل نشر المبادئ الديمقراطية وانجاح مساعي وجهود التنمية والسلام على النطاق العالم. ولكن على الرغم من المواقف السلبية التي يتخذها الأحاديون الأمريكيون فإنه من الأرجح أن تستمر دول العالم في مساعيها من أجل بناء تكتلات إقليمية مستقلة. كذلك من الأرجح أن يتسارع هذا الاتجاه مع بروز أزمات مالية وسياسية على النحو الذي يجتاح المسرح الأمريكي في الوقت الراهن. فهذه التكتلات توفر غطاء واقياً لدول العالم الثالث يحميها من الأزمات الكبرى التي يصدرها الأمريكيون إلى باقي مناطق العالم.