د. علي محمد فخرو
كل المصائب الوطنية والكوارث القومية في أرض العرب تأخذ شكل تمثيلية من ثلاثة فصول: تبدأ بتدمير العمران والاجتماع، لتمر في مرحلة طوفان وفوضى وضياع، لتنتهي بالتفكير المتأخر المضطرب لإيجاد حلول انتهازية مغموسة بالدم والدموع.
ودوماً وأبداً يكون مخرج تلك التمثيليات، والمتحكم في كل تفاصيلها وممثليها وحتى ديكوراتها، هو الخارج، حتى لو استعان بين الحين والآخر بمساعدين مخرجين من الداخل للقيام بمهام يحددها لهم بكل دقة وخبث.
اختيار مكان مسرح التمثيلية يخضع لتحقيق أهداف محددة تخدم مصالح كبار اللاعبين الأغراب في طول وعرض بلاد العرب.
فقد يكون الهدف قاصداً الاستيلاء على ثروة حتى لا تستعمل في بناء طموحات وطنية أو قومية.
وقد يكون الهدف قاصداً استغلال البؤس وتجييش الفقراء لإحراج جيرانهم الأغنياء واستنزاف ثرواتهم المتعاظمة الآنية.
وقد يكون الهدف رامياً تدمير رمز عروبي راسخ في قلب التاريخ العربي وإخراجه من معادلات التوازن مع الكيان الصهيوني. أو قد يكون الهدف راغباً في إعطاء درس في تأديب ومعاقبة كل من يحاول الخروج من تحت عباءة الدول الكبرى.
إنها فقط أمثلة، وغيرها كثير، لتمثيليات تبدأ باستغلال مطالب شعبية مشروعة، لتنتقل بعد حين إلى خلط الأوراق لتشويه أصل المسألة برمتها، من خلال عمليات التدويل المتفاهم مع والمحرك لبلادات وحماقات التعريب المجنون والأسلحة الطائفية الهمجية، من أجل انتقال هذا المجتمع العربي أو ذاك إلى مرحلة التدمير الممنهج للدولة الوطنية ومجتمعها.
وما إن يتم ذلك وتدخل تلك الدول والمجتمعات في طوفان التقاتل بين مكوناتها الإثنية والدينية والمذهبية والثقافية والسياسية، وتنقلب الحياة فيها إلى جحيم لا يطاق، وتبدأ تباشير انقلاب السحر على الساحر، أو يكون تحقيق الهدف الأصلي قد وصل إلى مبتغاه، حتى يبدأ الجلاد القاتل المدمر يفكر في طرح حلول مغموسة بالدم والدموع والقيح. حلول لن تكون في أغلبها إلا حلولاً مؤقتة، في شكل استراحة المحارب، بانتظار الدخول في حروب وصراعات جديدة.
سينبري المتحذلقون بالقول إننا نمارس اللعبة القديمة إيّاها: تحميل الغير الأغراب مسؤولية مشكلاتنا.. هذا هراء. نحن ندرك جيداً حجم الأخطاء والخطايا التي ارتكبها العرب بحق أنفسهم، عبر القرون والحقب المفجعة العبثية. لكن الغير الغريب متواجد في أرضنا، متجذر في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، وهو "يخيط ويبيط" في أرض العرب لأسباب داخلية وخارجية لا حصر لها ولا عد.
في ضوء تلك الصور التمثيلية، بمؤلفيها ومخرجيها ولاعبيها، يمكن الحكم على البكائية الهزلية التي يجري الإعداد لها الآن تحت مسمى بناء الجبهة الدولية ضد ما يسمى الخلافة الإسلامية "الداعشية"، لاحظ "الداعشية" فقط، في العراق وسوريا.
إنها حبكة سريالية، مملوءة بالغموض، طارحة ألف سؤال وسؤال، جاءت لإنقاذ الجلاد القاتل وليس الضحية البريئة، ولذلك تحمل في طياتها كل التناقضات.
أمريكا التي خلقت «الحركة الجهادية الإسلامية» لمحاربة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ثم حاربتها في أفغانستان، ولكن سمحت لها بالانتقال إلى العراق لتسهم في مؤامرة إثارة النعرات الطائفية في ذلك القطر، ثم انسحبت من العراق المدمر من قبل قواتها وعملائها لتتركه نهباً للطائفيين المجانين وﻟ«الداعشيين» الهمج، ثم ظلت هي والحلف الذي خلقته تتفرج على التمدد «الداعشي» من العراق إلى سوريا، بينما انشغلت مع بعض حلفائها في خلق «داعشيين» آخرين بمسميات أخرى مثل «جبهة النصرة»، وأسماء غامضة لجبهات وجيوش من «الجهاديين» التابعين لهذه الجهة الإقليمية أو تلك الجهة الاستخباراتية الأجنبية.. أمريكا هذه تتحدث الآن عن تكوين تحالف دولي جديد، بقيادتها بالطبع، سيضم كل من هبّ ودبّ من قوى متناقضة في أهدافها وأدوارها التي تلعبها.
فتركيا، التي فتحت حدودها لكل «داعشي» من كل بلاد العالم ليدخل سوريا، مدعوة إلى هذه الوليمة. وإيران التي أسهمت في خلق أجواء طائفية في العراق أدت إلى صعود «داعش» هي الأخرى مدعوة. وبلاد أخرى أسهمت في تمويل وتجييش وتدريب أشكال من القوى الجهادية في العديد من الأقطار العربية، ومن بينها العراق وسوريا، هي الأخرى مدعوة. وروسيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، من الذين يريدون حصة من الكعكة العربية، تحت شعارات تبدو إنسانية متحضرة بينما تخفي انتهازية سياسية، هم الآخرون مدعوون أيضاً.
وهيئة الأمم المتحدة، التي تتكلم كثيراً وتفعل قليلاً، والجامعة العربية التي يخيم السكون على أروقة مساراتها، هي الأخرى ستدعى لتسهم في تأليف وتلحين موسيقى خلفية لهذه التمثيلية.
هل يمكن لهذه السريالية أن تنتج تحفة فنية مفهومة؟
سؤال أخير: أين المشاهدون لهذه التمثيلية من شعوب هذه الأمة المستباحة، وهم ينتظرون الذبح؟