أما وأن المسبحة الحكومية العربية والإسلامية التي كانت ممانعة للتطبيع مع مغتصبي فلسطين قد نجح المقص الأمريكي في قطع خيطها، فسقطت أغلب حباتها في وحل العار، فإن الواجب يستدعي وجود مسبحة أخرى أكثر قدرة على مقاومة الابتزاز الأمريكي وأقل استجابة للضياع في منطق العجز وخيانة الضمير. ضمن هذا المعطى هناك ثوابت وهناك أفعال مطلوبة: أولاً: هناك دروس تاريخية تؤكد أن الشعوب أقوى من حكوماتها، بما فيها التي لم تنتخبها. وتستطيع المجتمعات أن تتمرد على قرارات فوقية لا ترضى عنها، لنستذكر هنا الممانعة الشعبية الهندية، بقيادة المهاتها غاندي، التي كسرت احتكار الملح من قبل الانجليز في الهند ودمرت صناعة النسيج في مدن انجلترا، لم يرفع الهنود بندقية في وجه أحد لكنهم رفعوا يد الإرادة السياسية والالتزام الوطني. نحن الشعب العربي نستطيع رفع أيادي الإرادة السياسية المقاومة وشحذ المشاعر الوطنية والقومية في وجه الشركات الصهيونية ومن يساندها في الخارج والداخل. ثانياً: أصبح من الضروري إعادة تثقيف النائمين والمخدوعين في هذه الأمة بشأن طبيعة الوجود الصهيوني في أرض العرب، دعنا نذكر بحرب السويس بتعاون صهيوني – انجليزي – فرنسي، وباكتساح سيناء مصر وجولان سوريا والأردن ولبنان، وبتدمير المفاعل الذري العراقي، وبالوجود المكثف الحالي "للموساد" في شمال العراق، وبالمرتزقة الصهاينة في حرب اليمن ضد المحاربين الجمهوريين، وبالتهديد النووي العلني لعواصم العرب الكبرى، وبالتصريحات الدائمة بأن "إسرائيل" لن تسمح قط بقيام تطور عسكري أو علمي أو سياسي عربي قد يكون خطراً عليها ولو في المدى البعيد، أي إبقاء العرب في ضعف وتمزق وتخلف دائمين. وهكذا كانت الحروب والمؤامرات عبر الأرض العربية كلها، وسيبقى الصراع مع كل العرب وكل المسلمين شئنا أم أبينا. ثالثاً: كل قضية عربية يمكن أن تكون قطرية وقومية في آن واحد إلا القضية الفلسطينية فإنها قومية حتى النخاع، هي فوق القطرية وتتجه لتكون فوق القومية، أي أن الحد الأدنى لمواجهة تفرعاتها، من مثل التطبيع، هو المستوى القومي. إذاً فأن تقوم لجان وطنية ضد التطبيع فهذا حسن، لكنه غير كاف وغير كفؤ، المطلوب هو مسبحة جديدة شعبية قومية تحل محل المسبحة التي انفرطت. إذا كان الهدف الأساسي هو جعل الأرض العربية كلها أرضا محروقة خالية من أي خير لأي شركة صهيونية بينة أو متخفية، وجعل كل محاولة لأي جهة عربية للتعامل مع الاقتصاد "الاسرائيلي" أمراً مفضوحاً على الملأ، فأن مواجهة طوفان التطبيع ستكون بالغة الضخامة والتعقيد، فالألاعيب "الاسرائيلية" والأمريكية لا حدود لها والخضوع العربي الرسمي لا قاع له. من هنا الحاجة الملحة إلى تأسيس جبهة أو شبكة عربية أكفأ وأقدر وأغنى وأكثر تركيزا وعلمية من فيدرالية جمعيات المقاومة للتطبيع الوطنية الحالية، ستحتاج هذه الشبكة إلى أناس يقرأون ويبحثون ويتقصون ويشمون رائحة الذئب المتخفي في جلد الخروف، وإلى علاقات تكشف المستور في أروقة المؤسسات الرسمية والتجارية، وإلى جنود يقفون محتجين أمام مؤسسات وأماكن المطبعين. وهذا كله سينقلب إلى نشرات دورية، قوائم سوداء، مظاهرات سلمية، مقاطعة بضائع، حملات عزل اجتماعي، نشرات الكترونية، إثارة في المحافل البرلمانية ومنابر المجتمع المدني، أنواع المقاومة الممانعة لن يكون لها حدود، ولذلك نحتاج إلى تنظيم عصري دقيق مستمر بالغ الانتشار في كل الوطن العربي والعالم، إلى حين رضوخ الصهيونية لإيجاد حل معقول وعادل للوجود اليهودي اللاصهيوني في أرض العرب، وبشرط ألا يكون قط على حساب شعب فلسطين وثوابت أمتنا القومية والإسلامية، ولا يستطيع الشعب العربي كله أن يتحلل من مسئولياته باسم أي ذريعة كانت، الصهيونية في فلسطين لن تسمح لنا جميعا أن نعيش في سلام وتقدم، والمقاطعة وعدم التطبيع هما في صميم معركة الوجود العربي والإسلامي، إنهما ليسا مماحكة ولا عنادا، إنهما دفاع عن المستقبل.