ان مرور الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس الشهيد صدام حسين، من قبل الاحتلال الأميركي وعملاؤه الشعوبيون بعد ان دمروا العراق وارتكبوا أبشع المجازر والجرائم بحق شعبه، فضلا عما يثيره في نفوسنا من مشاعر الألم والغضب، بالتوازي مع مشاعر الإعتزاز والفخر والأمل، فانه لا بد أن يحثنا على تسليط الضوء دون كلل على الدوافع التاريخية لأعداء أمتنا في قتل وتدمير كل مشروع عربي جدي قادر على النهوض بها بعد قرون من السبات والتخلف.
فرغم المساهمات والعطاءات التي قدمها العرب للبشرية منذ أقدم العصور، وفي مجالات حيوية، دينية ودنيوية، تأسست عليها الحضارة البشرية الحديثة برمتها، ورغم اعتراف المؤرخين الأجانب بأن لا فاتح في التاريخ كان أرحم من العرب، سعى أعداء العرب من شعوبيين إقليميين، أو توسعيين غربيين وشرقيين، في حملاتهم ضدهم على مر العصور، الى ممارسة الإبادة والتدمير سواء بحق البشر أو بحق نتاجهم الحضاري، مظهرين حقدا أعمى يصعب فهمه وتبريره.
ففي الحملات الصليبية التي أطلق شرارتها عام 1095م أوربان الثاني في خطبته الشهيرة التي فاحت منها رائحة الكراهية والعنصرية والحقد الدفين، والتي كشفت في الوقت ذاته عن الدوافع الدينية والاقتصادية و"الجيوسياسية" لتلك الحملات، لم يفرق الغزاة بين مسلح وأعزل، أو بين جندي وطفل أو امرأة أو شيخ، أو بين مسلم ومسيحي، فأبادوا الجميع وفظعوا بهم أبشع تفظيع بوحشية ما زالت تشمئز لها النفوس وتقشعر لها الأبدان بعد ألف عام وستبقى.
وفي احتلال المغول لبغداد عام 1258م دمروا عاصمة الخلافة العباسية بصروحها العلمية والمعمارية والفنية العظيمة ومكتباتها العامرة وركائز حضارتها المشعة، وذبحوا عامتها وخاصتها، علماءها وحكماءها..، بالتعاون مع زمرة خانت وغدرت من "علاقمة" و"طوسيين".. وما أشبه الأمس باليوم.
وعند دخول جيوش فرديناند وإيزبيلا غرناطة عام 1492 منهين الحكم العربي للأندلس الذي دام أكثر من سبعة قرون أدخلوا فيها الحضارة والعلوم الى أوروبا، جرت عملية تصفية للعرب توثق بشاعتَها كتبُ التاريخ، ونُصبت المحارق حتى "اجتُث" العرب من الأندلس اجتثاثا كاملا.
أما في العصر الحديث، فقد تآمر الاستعمار الغربي وضرب كل مشروع نهضة عربية بدت له فيه ملامح الجدية وامتلك القيادة التاريخية، وغالبا ما كانت مشاريع النهضة مرتبطة بتوجه وحدوي. فضرب مشروع محمد علي الكبير، ثم أنشئ الكيان الصهيوني على أرض فلسطين كإسفين في قلب الوطن العربي يفصل مشرقه عن مغربه، ثم استهدف مشروع عبد الناصر وضُربت التجربة الوحدوية التي حققها مع البعث، وأخيرا وليس آخرا استُهدِف مشروع البعث بقيادة الشهيد الخالد صدام حسين في العراق بشراسة وهمجية قل مثيلهما في أربع موجات كبرى متلاحقة:
– هجمة أولى في الثمانينات بواسطة الشعوبية الخمينية التي سعت الى احتلال العراق وتصدير "ثورتها" الطائفية العنصرية المغلفة بغطاء الدين وبدعم تسليحي من أميركا والكيان الصهيوني عرف باسم "فضيحة إيران غيت"، تخللها ضرب هذا الكيان للمفاعل النووي.
– هجمة ثانية في التسعينات نفذتها الامبريالية الأميركية وأحفاد الاستعمار، بعد أن اقتادوا اليها هيئة الأمم المتحدة بذريعة "تحرير الكويت"، دمرت البنى التحتية للعراق وانتهت بصفحة غدر وإجرام إيرانية.
– حصار إجرامي خنق العراق لثلاث عشرة سنة، وقتل مليون وخمسمائة ألف من أبنائه بذريعة أسلحة دمار شامل تأكد لاحقا عدم وجودها.
– ثم حرب شنتها الامبريالية الأميركية والاستعمار البريطاني في عام 2003، وفي تحد للأمم المتحدة والإنسانية جمعاء -التي كانت قد استفاقت بعض الشيء- بذريعة أسلحة الدمار الشامل التي لم تنطل على أحد، قتلت ما يزيد عن مليون عراقي وهجرت خمسة ملايين، استهدفت الاحتلال المباشر للعراق والاستيلاء على ثرواته، وتدمير نسيجه الاجتماعي ومشروع نهضته من الداخل بمساعدة ودعم نظام الملالي الشعوبي في إيران أيضا و"اسرائيل".
إن الإنجازات العظيمة التي حققها البعث بقيادة الرئيس الشهيد صدام حسين نقلت العراق إلى حالة متقدمة أثارت الأعداء. إذ أمم النفط بعد أن كانت الشركات الاحتكارية تنهب جزءا مهما من إيراداته، وأرسى مجانية التعليم بكل مراحله، وإلزاميته في المراحل الابتدائية، ووفر مجانية الرعاية الصحية لكل أفراد الشعب، وبنى الجامعات وأحدث المستشفيات، كما بنى قاعدة علمية وصناعية متطورة، واضطلع بتطوير الزراعة، وقضى على الأمية والبطالة السائدتين في حينه وعلى كثير من الأمراض الاجتماعية المتوارثة والمكتسبة. وما أثار الأعداء ان هذه النهضة ترافقت مع سياسة داخلية ركزت على تعزيز التلاحم الوطني وصياغة حل عادل للقضية الكردية بإصدار قانون الحكم الذاتي، وحماية حقوق كافة الطوائف والأديان في ممارسة طقوسها، وتحقيق المساواة بين الجميع في المواطنة وأمام القانون.. وأن هذه النهضة ترافقت مع سياسة قومية مبدئية دافع فيها العراق بقوة عن كافة القضايا العربية واضعا هدف التأسيس للوحدة العربية في طليعة أهدافه، معطيا أولوية خاصة لقضية فلسطين ولتهيئة مستلزمات تحريرها.
هذه النهضة الشاملة التي قادها الرئيس الشهيد ووضع في سبيل تحقيقها كل قدراته الفكرية وكفاءاته الإدارية ومواهبه السياسية وخصاله القيادية وإيمانه المطلق بفكر البعث ورسالة أمتنا الخالدة، ولّدت على قدر حجمها ومستواها وإمكانياتها المستقبلية تكالبا عدوانيا حاقدا من كافة أعداء الأمة العربية بنيّة ضربها وتدميرها، بعد أن عجزوا عن تحييدها عن مبادئها بالتهديد والترغيب. وقد عكس مستوى الإجرام وهمجيته حجم الحقد والخوف الذي يعتمل في نفوس أعداء نهضة العرب. كما عكست سياسة التفتيت الطائفي والعنصري التي فرضها الإحتلال وطبيعة ونوعية العملاء الذين أتى بهم كبديل لنظام العراق الوطني، حقيقة النوايا التي يكنها الأعداء لأمتنا وطبيعة المستقبل الذي يتمنوه، بل يهيئوه، لها. كما أن سرقة المتاحف ونهب وحرق دور الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخية والمدنية يؤشر بوضوح إلى أبعاد مؤامرة سلب العراق تاريخه وهويته. وبالمقابل عكست بطولة المقاومين وفي طليعتهم البعثيين، يتقدمهم الرئيس الشهيد، عن مدى الإيمان العميق بالمبادئ والشعب والأمة.
إن مرور هذه الذكرى علينا هي مناسبة لنذكّر بالأسباب الحقيقية للهجمة التترية الجديدة على أمتنا، ولنشد من عزائمنا ونعلن عن إيماننا بحتمية النصر وعن تصميم البعثيين المقاومين خاصة والعرب عامة على المضي قدما في نضالهم من أجل طرد المحتل وأعوانه، وإعادة بناء التجربة الرائدة على أسس أصلب وأكثر انفتاحا وديمقراطية متجاوزين الأخطاء والنواقص والثغرات ومركزين على الجوهر المشع الذي تكالب الأعداء لتدميره وإطفاء نوره.
إن طلائع الأمة وفي مقدمتها البعثية ستمضي نحو تنفيذ مشروع نهضتها، رغم العثرات والكبوات والنكسات ورغم المؤامرات التي تعرض لها هذا المشروع، وهي مدركة لضرورة العمل على توحيد صفوفها المبعثرة، وعلى الدفاع عن قلاع العروبة المهددة. إذ أن التجربة دلت على أن المشروع القومي النهضوي يبقى المشروع الوحيد القادر اليوم على نقل الأمة الى العصر الحديث لمواكبة مسيرة التطور العالمية باقتدار، والإبقاء على اتصالها الحي المبدع بروحها وتراثها ورسالتها الخالدة المنفتحة، بعيدا عن كل أشكال التخلف والتعصب الطائفي والمذهبي والعنصري، الحلفاء الأوفياء للإستعمار والشعوبية.
كانون الأول 2009.