بقلم: اسماعيل أبو البندورة
يبدي البعض خشيته من أن يغيّب الحراك الشعبي الراهن، أو أن يعمل على تهميش، وازاحة الأبعاد والمطالب القومية عن جوهر منطلقاته وغاياته، وأن ينحصر جهده ونضاله في مطالبات قطرية ومطلبية داخلية، تعزل هموم وتحديات وخيارات الأقطار العربية عن بعضها، وتزيد في انقسامها وتشرذمها، مع أن كل المؤشرات الظاهرة والكامنة، تدلل على عكس ذلك · ذلك أن الشعب العربي قد توحّد ومنذ "ثورة تونس" الرائدة على مجموعة مطالب تغيرية – احيائية، وتنويرية- سياسية جذرية، تعبر بذاتها وفي مراميها البعيدة عن أبعاد قومية، وتؤول ، وتؤدي الى انعكاسات وتراكمات قومية ايجابية، اذا أخذناها في دلالاتها، وحمولاتها، واحتمالاتها السياسية، وتداعياتها المفترضة والمتوقعة، ذلك أن التوحّد البدئي، على رفض الاستبداد، والفساد الداخلي، والمطالبة بالاستقلال، ورفض التبعية للخارج، وبناء وطرح سياق ذاتي واستقلالي داخلي للانتهاض والاحتجاج، والمطالبة بالتغيير الكامل والجذري للمؤسسات والنظم، والسعي الى اسقاط الأنظمة التسلطية المرتبطة بالأجنبي، ما هي الا مقدمات أساسية، لاستنهاض حالة قومية جديدة، واشتقاق نسق جديد من أنساق الرؤية القومية للتغيير، يبدأ بالممكن الوطني الملحّ والمباشر، وينتهي بالأعمق، والأشمل ·
وكنا ندرك بشكل حاد وعميق، أن الأنظمة التي ازيحت، وأسقطها الحراك الشعبي خلال برهة قصيرة، كانت واجهات فاضحة، وفاقعة للاستبداد والفساد في الداخل، والمروق القومي على صعيد الأمة، وكانت ازاحتها خطوة ضرورية على طريق انبثاق وافتتاح أفق قومي جديد، بعد أن "تصهينت" بعض هذه الأنظمة تماما، وذهبت في غيّها السياسي الى أبعد مدى، وأصبحت شريكا للاستعمار والصهيونية في تحقيق عملية التفكيك، والتفتيت، والاستنقاع، والردة، كما أننا كنا نرى في تحقيق ذلك، واشتعاله، واشتغاله على هذا النحو، انتصارا رمزيا ابتدائيا، وأوليا لمطامح الفكرة القومية الجمعية ، التي تدمج الاهداف والغايات الشعبية العربية الكليّة والمتنوعة والمتفاوتة في التأثير، "وفي بعدها وقربها، وفي اولوياتها وتعرجاتها"، وتعطيها أبعادها واطاراتها المكوّنة، ومضامينها القومية الحقيقية، حتى لو اتخذت مسارات مختلطة، ومتداخلة، ومغايرة في طريقة صياغة وطرح وتنسيق وتحقيق الاهداف، وتحديد الاولويات، وفي اندغام القطري والقومي في حقل واطار واحد، ووحدوي غير متناقض ·
وكل من تتبع مسارات التغيير في تونس ومصر، سوف يلاحظ بالعين المجردة، والعقل اليقظ، التدرج غير المتسرّع، وغير الملتبس، الذي اختطه الحراك الشعبي في مجال صياغة، وصناعة، وهندسة الاهداف المرحلية والقادمة بطريقة توائم بين ( فن صناعة الثورة في ميدان التحرير وبلورة مطالبها،واقتحام سفارة الكيان الصهيوني كاحدى مفرداتها التكميلية )، مع ملاحظة أن مطالب اسقاط الأنظمة في معظم الحراكات، قد تقدمت على مطالب صياغة الهوية الاجتماعية والسياسية للدولة القادمة، اذ أن ماتلى ازاحة الأنظمة كان ذلك الحراك الجديد، باتجاه تحديد الآفاق الجديدة التي سوف تتجه اليها الأمور، وقد يكون مثل هذا التدرج هو من حسن الطالع، وحسن الفطن، في هذه الحراكات، وليس بعضا من ارتباكها، وفوضاها السياسية، ذلك أنه لو أن الحراكات قد اقدمت على اعلان برامجها، وخططها القريبة والبعيدة دفعة واحدة، في خضم حالة الغليان والمواجهة اليومية، لكانت أثارت زوابع كبرى في طريق الثورة والتغيير، ولكانت دخلت في معميّات والتباسات غامضة، واشتباكات مع دعاوى الأنظمة، واتهاماتها بأن "الفوضى الشعبية" سوف تؤدي الى تهديد السيادة الوطنية، واشاعة عدم الاستقرار، وتهديد الأمن والنظام العام · وكانت الحراكات في غنى عن ذلك في البدايات المتوهجة، التي كانت توحي وتعد بالكثير من التغيير القادم، مع اصرارنا على القول وسواء كان الأمر،"في بدء عملية تحليل ماهية ومسارات هذه الحراكات، أو في برهتها القائمة والراهنة"، بضرورة وجود عقل للثورة والحراك الشعبي، واهمية وضرورة تحديد هوية، وماهية وطنية وقومية للحراك الشعبي العربي، واعلان مواقف واضحة تجاة المسائل القومية الكبرى، حتى تتجنب الحراكات الانحرافات، والتشوهات والمغامرات السياسية، أوعدم القدرة على التفريق بين الرئيسي والثانوي، وحتى لاتكون ايضا طريقا للانعزال والافتراق عن قضايا الأمة، أو ترسيخا للقطرية الانعزالية المدمرة والمقيتة، أو معبرا وغطاء لدعاة الفوضى الخلاقة، والثورة المضادة، أو الثورة التي يمكن أن تصبح في مساراتها مغدورة وناقصة·
اننا هنا نتطلع الى المسائل الكبرى في الحراكات الشعبية العربية ( التي سميت ثورة وانتفاضة وتمردا، واحتجاجا، ومؤامرة، وفوضى خلاقة، وسايكس -بيكو جديد) ولا نتوقف عند الجزئيات التي قد تكون اخافت البعض،وحرفت رؤيتهم نحو الاتهامية المتسرعة، والتشاؤمية، والعدمية غير المبررة، أو الانتقاص من أهمية هذه الحراكات، والتشكيك بهويتها ومعطياتها، ومساراتها · كما أننا ندرك ونعي تماما ما اعتور بعض الحراكات من التباسات واستدخالات، وظاهرات مريبة، أثارت الشكوك حول هذه الحراكات، أو وضعتها في خانة المؤامرة على الأمة، أورأت فيها تطبيقا وتحقيقا لأغراض الفوضى الخلاقة المدمرة، التي سعت اليها القوى الاستعمارية · ومن حق الجميع بالطبع الاختلاف في وجهات النظرعند تحليل مثل هذه الظاهرة الانعطافية ومساراتها، وهناك شرعية جائزة ومستساغة، ومبررة، للحق في الاختلاف حول ما ظهر واستجد في الواقع العربي، "بعد انتكاس، واستنقاع، وانحطاط عربي طويل"، أوالحق في اختيار واشتقاق أدوات معرفية مختلفة لتحليل مضامين وتوجهات هذه الحراكات وبأي منهج سياسي يريدون، وضمن حدود وأطر فكرية عقلانية مقبولة، بشرط أن لاينطلق ذلك من رؤية انتقاصية، أو تبخيسية للارادة الكامنة في الامة، وقدرات ابنائها، أو من خلال رؤية استعمارية – استشراقية، ترى العرب رعاعا وقطعانا، لا يملكون من أمرهم شيئا، أو على أنهم دهماء تساق الى حتفها وهي لاتدري الى أين، أو ذرات رمل تتخطفها وتذروها الرياح الى حيث تشاء ·
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.