دراسات قديمة عن ميشيل عفلق أنشرها لأول مرة (2/ 2)
البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث
دراسات قديمة عن ميشيل عفلق أنشرها لأول مرة
(2/ 2)

حسن خليل غريب
كُتبت في ذكرى رحيل مؤسس البعث: من الأرشيف الخاص الذي يعود تاريخه إلى ما قبل العام 2003.
البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث
أولاً: مقدمات نظرية حول العلاقة بين المنهجين المعرفيين الإيماني والعقلي.
1- تعريف المفهوم الإيماني ومساحة التمايز بينه وبين العقل.
2- العلاقة بين الإيمان والعقل.
3- الإيمان الروحي بالمنهج المعرفي.
ثانياً: واقع البينة الفكرية والسياسية في الوطن العربي وتأثيراتها على تكوين منهج عفلق المعرفي.
ثالثاً: تحديد ملامح المنهج المعرفي عند ميشيل عفلق.
1- البعد الإيماني عند مؤسس البعث من خلال كتاباته الأدبية.
2- علاقة بعد المنهج الإيماني عند عفلق بالإسلام:
أ- الإسلام حركة ثورية عربية ذات خصائص عربية وذات عمق إنساني.
ب- الإسلام عام وخالد، لكنه ليس شاملاً وليس جامداً.
ج- تأثيرات قوة الإسلام الروحية في العرب، في المرحلة الراهنة، وزخمها.
3- حدود العلاقة بين العروبة والإسلام في فكر مؤسس البعث.
رابعاً: المقاربة بين منهج عفلق الإيماني وقضايا الأمة العربية الراهنة.
خامساً: خاتمة البحث
***
كثيراً ما التبست، في أذهان الكثيرين، مسألة إعلان أعظم مؤسس البعث بعد وفاته. وسرت التفسيرات والتأويلات شتى السبل. والكل يريد ان يعرف الأهداف من وراء ذلك الإعلان.
وبوضوح أكثر أحبط الإعلان أمال العلمانيين، ولم يأخذ الإسلاميون الموضوع على محمل الجد، وجنحوا بتفسيراتهم إلى نعى الفكر القومي، الذي كأنه أعلن إفلاسه بعد إعلان إسلام مؤسس البعث. وشعر المسيحيون بالأسى، وعادت إلى أذهانهم صورة ارتباط هوية العرب بالإسلام، وكأن العروبة للمسلمين وحدهم، وعادت صورة الماضي العثماني إلى أذهانهم عندما كان العرف السائد لا يميز آنذاك بين العربي والمسلم.
دفعنا ذلك اللبس إلى ان نتتبع الإشكالية في هذه الندوة لكي نقدم حافزاً أمام الباحثين ليولوا هذه المسألة الاهتمام الكافي ويبذلوا من اجلها الجهود التي تزيل كل لبس لحق بالبعد الإيماني عند المرحوم احمد ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي.
أولاً: مقدمات نظرية حول العلاقة بين المنهجين المعرفين الإيماني والعقلي.
1- تعريف المفهوم الإيماني ومساحة التمايز بينه وبين العقل.
الإيمان هو (التصديق بالقلب.. والعقل) ومن معانيه (تسليم النفس بالشيء تسليماً راسخاً لا تقل قوته من الناحية الذاتية عن قوة اليقين. والفرق بينه وبين اليقين، ان اليقين مستند إلى أسباب موضوعة، في حين ان الإيمان مبني على أسباب شخصية ذاتية)([1]) .
أما الإيمان في الشرح فهو (الخضوع والقبول للشريعة، ولما أتى به النبي)([2]).
2- العلاقة بين الإيمان والعقل
يرجع مصطلح العقل: (إلى وقار الإنسان وهيبته)، وهى هيبة محمودة للإنسان في كلامه وسلوكه. ويراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية. وهو قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها، وكمالها ونقصها.
أما الفلاسفة فيرون ان العقل (جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها). وهو قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا والأقيسة. والفرق بينه وبين الحس ان العقل يستطيع ان يجرد الصورة عن المادة، وتدرك المعاني الكلية كالعلة والمعلول، والغاية والوسيلة… وهو (قوة الإصابة في الحكم)، أي تمييز الحق من الباطل ..وهو لا يلقي، على الإطلاق، شيئاً على انه حق، ما لم يتبين ببداهة العقل انه كذلك. وهو مجموع المبادئ القبلية المنظمة للمعرفة كمبدأ عدم التناقض … وهو قوة طبيعية للنفس متهيئة لتحصيل المعرفة العلمية، وهذه المعرفة مختلفة عن المعرفة الدينية المستندة إلى الوحي والإيمان([3]). فالعقلي هو المنطقي والنظري. والحياة العقلية في علم النفس مقابلة للحياة الانفعالية أو الوجدانية. والقيم العقلية مقابلة للقيم الأخلاقية أو الفنية([4]).
3- علاقة الإيمان الروحي بالمنهج المعرفي
ليست إشكالية الاشتباك بين مناهج المعرفة جديدة، بل هي مسألة قديمة قدم تاريخ بدء العمل فيها فيعود إلى العصور التي بدأ فيها العقل الإنساني يلعب دوره في مواجهة الوجه الميتافيزيقي للمعرفة، أي منذ أخذ العقل النقدي يأخذ دوره في نقد الفكر الديني. فعرف أولى محاولاته الجدية على أيدي المفكرين المسلمين والعرب، وانتقل حتى بلغ ذروته في مرحلة بناء العقل الفلسفي الأوربي، الذي بدأ يشق طريقه لينتقل من عصر الإيمان ويتخذ طريقه نحو النضج منذ العصر الوسيط في القرن الخامس عشر الميلادي، وبه انشغل الفكر الفلسفي بمرحلة التوفيق بين العقل والنقل، بين منهج الإيمان ومنهج الفكر العلمي. وانعتق الفكر الأوروبي في عصر النهضة من قيود مقولات الفكر القديم، إلى ان وصل في عصر التنوير إلى مرحلة بناء أنسقة فلسفية متكاملة، واستخدام المناهج العلمية في البحث([5]).
ولان الايمان كان يعني، تقليدياً، انه مختص بالدين، أي بالمسائل الميتافيزيقية، والعقل كان يعني، أيضاً، الفكر الفلسفي، سنستعرض بإيجاز ما هو المقصود بهذين المصطلحين:
كان النساك المسيحيون يرون ان تسويغ العقيدة بحجج العقل، ان هو إلا إسراف غير مفيد لوقت ثمين، فمن الأفضل ان يبحث، عند تأمل الكتاب المقدس، عن غذاء أخلاقي معنوي يغذي الروح([6]). وحول هذه المسألة يقول القديس أغسطين: (لست أسعى للفهم لكي اعتقد، بل ان اعتقد لكي أفهم)([7]).
ولما اشتد الضغط الفلسفي على نقد الكنيسة والفكر الديني، وجد بعض اللاهوتيين أنفسهم يخوضون غمار الدفاع عن الإيمان الديني بأسلحة العقل نفسه. وكان من أهم أولئك المدافعين توماس الاكويني، الذي كأنه يقلد طريقة الأشعري والغزالي في الرد على الفلسفة تحت شعار الرد على الفلاسفة بأسلحتهم([8]). فيكون الاكويني قد رفع العقل فوق الإرادة والفهم فوق الحب([9])؛ ولهذا السبب عده مرسوم للبابا يوحنا الحادي والعشرين خارجاً على الدين([10]).
كان الفكر الإسلامي، بعد ان انتقل الفكر الفلسفي اليوناني إلى العربية، ومع انتشار موجة إعطاء العقل حقه في البرهان في مسائل المعتقدات الإسلامية، خاض النقليون الإسلاميون صراعات ضد موجة التفلسف الجديدة، ذلك الصراع الذي قاد الغزالي إلى الدفاع عن الإيمان الديني باستخدام أسلحة الفلاسفة. وعمل على أساس ان يضع قواعد للبعد الإيماني في مواجهة العقل فتوصل إلى نتائج دفعته إلى الدفاع عن الحدس الصوفي كطريق إيماني بديل للعقل.
لم تتوقف صراعات تحديد مناهج المعرفة، بين العقل الفلسفي والإيمان الديني، عند حدود عصر معين، بل تواصلت إلى القرن العشرين الميلادي، وتوصل بعض فلاسفة الغرب إلى وضع قواعد جديدة في الحدس لكي يبرهنوا من خلالها على ارجحية البعد الإيماني في صياغة مناهج معرفية تسهم في إنتاج معارف جديدة للبشرية وان تكون موثقة النتائج أكثر من جمود البرهان العقلي والمنطقي فكان برغسون، الفيلسوف الفرنسي، من أهم من مثَّل ذلك التيار.
عمل برغسون على وضع أسس للحدس يدافع بواسطتها عن منهج المعرفة الإيمانية كبديل للمعرفة البرهانية القائمة على العقل. وهنا رأى برغسون ضالته المنهجية في البطل والبطولة. فعد البطل مثالاً للمتميزين منهم، أولئك الذين يصلون إلى أهدافهم في المعرفة الإنسانية من خلال مبادئ الأخلاق المؤسسة على الوعي؛ فيرى ان كل أخلاق بطولية لا يمكن ان تنال كفايتها بواسطة العقل، لأنه وحساباته –غالباً – ما يوقعان الأخلاق في المنفعة المباشرة أو غير المباشرة. اما أخلاق البطولة فلا يمكن ان تصدر إلا عن حالة روحية تعيش جواً انفعالياً يعيشه الفرد المتميز، ويسري في نفوس الناس سريان النار في الهشيم.
لا يمكن -كما نحسب- لمنهج معرفي واحد ان يحتكر حقيقة الوصول إلى المعرفة عن طريقه وحده. لان هذا الادعاء يقود إلى تحويل الإنسان إلى كتلة واضحة سهلة الفهم غير معقدة. بينما المخلوق البشري هو عبارة عن موجود مركب لم تستطع كل المناهج المعرفية السابقة ان تحدده تحديداً دقيقاً. وقد وقعت المناهج المعرفية، سواء كانت ذات أبعاد إيمانية أم إبعاد برهانية عقلية، في التعسف عندما ادعت ان منهجاً معرفياً واحداً يستطيع ان يضع للكائن البشري تفسيراً من خلال تناوله من جانب واحد: سواء كان الجانب مادياً أم روحياً.
من ضحايا تلك الادعاءات وقعت الماركسية، كإحدى أهم الفلسفات المادية، فريسة من فرائسها عندما أقامت هيكلها المعرفي على أساس جانب وحيد هو الجانب المادي. ووقعت الادعاءات الدينية فريسة أخرى عندها حسبت ان الجانب الإيماني الروحي هو الهيكل المعرفي وحيد الجانب الذي يستطيع ان يفسر كينونة الإنسان.
لابد من ان نعترف للمنهجين: المادي والروحي، بدوريهما المتكاملين في تكوين مناهج معرفية تساعد الإنسان، ذلك الكائن المركب، على اكتساب المعارف الضرورية التي تساعده على تخطيط وسائل الوصول إلى سعادته في جانبيها: المادي والروحي.
ثانياً: واقع البيئة الفكرية والسياسية في الوطن العربي
وتأثيراتها في تكوين منهج عفلق المعرفي
بما لا يقبل الشك، للفكر علاقة وثيقة مع البيئة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي يولد فيها. ويكتسب أسسه من خلال نقد ما هو قائم أولاً، ومن خلال وضع أسس معرفية جديدة تجهد من أجل وضع حلول لتغيير الواقع المعاش ثانياً.
عاش عفلق في بيئة سياسية واجتماعية وفكرية عامرة بالمشاكل من شتى الأنواع من جهة، وفي بينة فكرية تسودها اتجاهات فكرية متناقضة ومتباعدة ومتصارعة من جهة أخرى.
أما البيئة الاجتماعية فكانت وليدة عصور تركية طويلة من التخلف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ومن الإلحاق السياسي بنظام عثماني لم تكن له علاقة بمعاني الإنسانية ولم يكن يهتم بمصلحة الرعايا التابعين له. ولما انهار بنيانه كان ورثته من الاستعماريين الغربيين الذين كانوا يفتشون عن أسواق لمنتجاتهم. فلم يكن تغيير الأنظمة السياسية يهتم بمصالح المواطنين، بل كان يسير من استغلال إلى استغلال، ومن سيئ إلى أسوأ.
في تلك المرحلة لم تكن طبقات الشعب، سواء منها النخبوية أم الشعبية تمتلك مشروعاً نهضوياًَ، أو جزءاً من مشروع لكي تواجه بواسطته متغيرات المرحلة الجديدة فانقسمت النخب العربية إلى تيارات فكرية وسياسية ثلاث، وهي: التيار الإسلامي الذي كان يعمل من اجل إعادة الخلافة الإسلامية على قاعدة (لا يصلح الخلف إلا بما صلح به السلف). وتيار ماركسي منبهر بالفلسفة الماركسية، خاصة في ما له علاقة بالاشتراكية القائمة على صراع الطبقات، وعززت عوامل الانبهار إفرازات الماركسية السياسية في روسيا بعد ان استولى الحزب الشيوعي على السلطة فيها. وكانت التيارات القومية العربية تجهد من اجل وضع نظريات تعتبر ضرورية في أن تكون للعرب نظرية قومية ترشدهم إلى معالجة ما هم مصابون به من علل وأمراض، لكن تلك التيارات كانت تحاول ان تقلد نظريات أوروبا في القومية.
واجه عفلق، في مراحل وعيه المبكرة، سلفيتين: دينية إسلامية تعمل لإعادة التاريخ إلى الوراء، وسلفية ماركسية تعمل من اجل نقل مناهج معرفية وسياسية وضعها فلاسفة غربيون تلائم أمراض الغرب. وواجه نظريات في القومية العربية تعيش في أبراجها النظرية النخبوية، وحسب أن تلك النظيرات لن تستطيع ان تحفر في أسس التغيير ما لم تتحول إلى نظريات تشترك في تطبيقها قاعدة واسعة من البنى البشرية العربية التحتية.
لقد أسهمت البيئة الفكرية والسياسية في بناء منهج عفلق المعرفي، وعمقته، من خلال قيامه بنقد المنهجين الفكريين: الإسلامي السلفي والماركسي المادي. وان كانت لم تصدر عنه أية دراسات متكاملة عن هذين المؤثرين، اللذين أسهما في انحيازه إلى منهجه المعرفي الذي تميز به، إلا ان الباحث المتابع يجد نقده لآرائهما موزعة هنا وهناك في كتاباته وخطبه وأحاديثه في مختلف مراحل حياته.
فقد أخذ على الماركسية جمودها النظري، ومنهجها الغريب عن البيئة العربية، وعلميتها التي استندت إلى وقائع غربية متميزة عن الواقع العربي، وجفافها الذي لا يتوافق مع حرارة الروح والإيمان، واخذ على الإسلاميين أنهم جمدوا تعاليم الإسلام ولم يطوروها وحولوا الطاقة الثورية التي للإسلام إلى طقوس وتعاليم لها علاقة بالغيب والسطحية، فأخذوا من الإسلام الطقس والعبادة السطحية وأهملوا الجانب الروحي الثوري فيه. وأخذ على النظريات القومية السابقة لنظريته أنها أسرت القومية في أبراج النخبة ولم تجهد نفسها لتحويلها إلى نظرية تظهر مصلحة الجماهير المسحوقة في العمل لأجلها.
ولأنه لا يمكن لأية نظرية ان تكون عملية وصالحة إذا لم تقترن بطاقة روحية فاعلة نزرع الحوافز عند الجماهير الواسعة للعمل من اجلها، أولاً، وترتبط بمصلحة اكبر قاعدة شعبية ثانياً.
ولأن الإسلام كان مثالاً تاريخياً بارزاً في التاريخ العربي، وكان يتميز بطاقة روحية كبيرة أصاب نجاحاً كبيراً في عملية التغير في البنى الفكرية والحضارية العربية، ولان الإسلام يعد ثقافة أوسع القطاعات الشعبية العربية، أصبح يمتلك شرطين أساسيين في قيادة الصراع ضد عوامل التخلف وقوى الاستغلال وهما: طاقة الاسلام الروحية ونجاحه الثوري في التاريخ من جهة، وهو ثقافة أساسية للجماهير التي يعتمد عليها في رفد الثورة الجديدة المعاصرة من جهة أخرى.
هذه الأسباب مجتمعة أسهمت في بناء المنهج المعرفي الإيماني عند عفلق. وقد اشتركت عوامل عدة في بناء المنهج المعرفي عند عفلق:
-الأول: منهجه في الرؤية الفلسفية الإنسانية القائم على القاعدة الإيمانية.
-الثاني: نقده المنهج الإيماني الساذج والسطحي عند الإسلاميين.
– الثالث: نقده المنهج المادي عند الماركسيين.
-الرابع: حاجته في التغيير إلى عوامل لابد من ان تتوفر في الثورة التي يدعو إليها، وهي قوة روحية تمتلك حرارة الإيمان وعمق التجربة وخصوصيتها، فكان الإسلام هو تلك القوة الروحية التي أثبتت جدارتها وخصوصيتها في التاريخ العربي.
ثالثاً: تحديد ملامح المنهج المعرفي عند ميشيل عفلق
إن اكتشاف المنهج المعرفي عند أية شخصية لها دور بارز على صعيد الإسهام في إغناء المعرفة الإنسانية مسألة ضرورية، لان دراستها ومعرفة أصولها وتأثيراتها ذات فائدة كبرى على صعيد تطوير مناهجنا المعرفية، وتأتي أهميتها، بشكل خاص، إذا كان منهج معرفي ما قد أسهم بشكل ايجابي في تطوير وتغيير الأوضاع الفاسدة التي يعانيها المجتمع البشري، بشكل عام، أو التي يعانيها شعب ما من الشعوب بشكل خاص.
ولان لمؤسس البعث تأثير عميق في دورة الحياة العربية المعاصرة فكان لا بد من ان نبحث عن أصول منهجه المعرفي الذي من خلال استخدامه اثر تأثيراً عميقاً في مجرى حياة الحزب الذي أسسه بشكل خاص، وفي مجرى حياة الأمة العربية بشكل عام. ولعلنا من خلال تأصيلنا لمنهجه المعرفي نستطيع ان نجد تفسيرات واضحة للإشكالية التي أثارها إعلان انتمائه روحياً إلى الدين الإسلامي.
بداية، عدنا إلى كتابات مؤسس البعث الأولى لعلنا، من خلالها، نصل إلى ما يساعدنا على التأصيل. لكننا نرى أيضاً ان ما كان بالإمكان ان يسهم في عملية البحث هو العودة إلى البدايات الشخصية في حياته الخاصة، وكذلك العودة إلى معرفة البيئة الفكرية والسياسية التي لا شك في أنها أدت دوراً تأسيسياً في بناء منهجه المعرفي. ولأننا نلمح مسحة واضحة من الروح والوجدانية في كل زوايا أثاره وكتاباته، كان لابد لنا من ان نتتبع تلك المسحات الواضحة من خلال نماذج من كتاباته في مراحل زمنية متفاوتة.
1- البعد الإيماني عند مؤسس البعث من خلال كتاباته الأدبية:
لان مؤسس البعث بدأ حياته في كتابات عدها بعضهم بالكتابات الأدبية كان لابد من ان نعود إليها لكي نتتبع ماله علاقة في تحديد منهجه المعرفي. ولو عدنا إلى ما نشره في مراحل مبكرة من حياته لوجدنا ما يلي:
نشعر في كتابات مؤسس البعث الأولى بموقفه السلبي من العقل والعقلاء والمنطق والمناطقة وإذا ما حاولنا أن نتلمس أسباب هذا الموقف لوجدنا ان مصطلحاته (العقل) و(العقلاء)، (الحكمة) و(الحكماء) مرتبطة بالمعاني التالية: الضعف، كما يستخدمه العقلاء، أصبح (عقلا)؟ والجبانة أصبحت (حكمة)، ومن مواصفات (العقل) ان (تزن كل حركة تهم بها حتى تقتلها في صدرك. وبذلك فقد (العقلاء) في مصطلح مؤسس البعث (حرارة الدم، وتعطلت فيهم حوافز الحياة)([11]). تلك النتائج كانت ظلالاً لأفعال وممارسات تصدر عن (عقلاء) ذلك العصر و(حكمائه). تلك الظلال ظهرت في مقالات عفلق على شكل ان الجدل والإقناع هما (حيلة العاجزين)، واختيارهم (الهدوء على النضال)([12]).
لم يقف عفلق موقف الناقد للنخبة في المرحلة التي يكتب عنها، بل تصور ان البديل (لعقلائها) و(حكمائها) موجود في المثال الأعلى، الذي هو (البطل الذي لا يحب الحياة فحسب بل يحترمها، ولا يشتم القدر بل يحاربه، ولا يخاف الفشل بل يرى فيه سر بطولته.. مرتلا نشيد الظفر)([13]).
أستند المنهج الفكري لمؤسس البعث، في كتاباته الأولى، إلى الإيمان بقضية الأمة العربية، وأحس بحدسه ان تلك القضية عادلة، ولم ينتظر أن يترجم حديه إلى يقين عقلي، بل وجد في انتظار الوصول إليه مضيعة للوقت. فكان يكفيه انه آمن بتلك القضية وبعدالتها من دون أي برهان عقلي أو منطقي، لأنه لا يجوز للمتألم ان يبرهن علي ألمه بأي برهان عقلي أو منطقي لان الألم هو برهان أكثر من كاف. زرعت معرفته الإيمانية لقضية أمته في نفسه حباً لتلك القضية، ولم يجد حلاً إلا في ان تكون حرارة الإيمان بها عالية لتصل إلى درجة الغليان القصوى، ولهذا وقف من (عقلاء) المرحلة و(حكمائها) موقفاً سلبياً لأنهم حاولوا ان يبرهنوا على وجود الألم، بينما المتألم ليس بحاجة إلى الإتيان ببرهان ليبرهن من خلاله عن ألمه.
قد يكون فهمه لقضيته، من خلال منهجه المعرفي صائباً ودليل صوابيته أنه استقطب كثيراً من الأنصار والمؤيدين، وهذا مؤشر على نوعية البيئة الفكرية التي كان عنصر الشباب يحياها في الثلاثينات من القرن العشرين.
لم تكن الأجيال الشابة تفتقد الإحساس بعدالة قضيتها، وإنما كانت تنتظر من يقودها إلى العمل من اجلها. والعمل من اجل قضية يحتاج إلى وقود روحي يؤجج حرارة الإيمان بها. ولما كان عفلق قد اطلع على تجارب الأوربيين في مراحل تحررهم، واكتنز رصيداً ثقافياً كبيراً من كتابات فلاسفتهم وثورييهم، فتأثر بها وعمل على مقاربتها من خصوصيات الواقع العربي، فنشأت لديه وسائل منهجية معرفية اختبرها من خلال كتاباته الأدبية في الثلاثينات من القرن العشرين، ولما أصاب تأثيرها نجاحاً بين الشباب، خاصة وانه كان من الذين مارسوا مهنة التعليم في الصفوف الثانوية، خطا عفلق خطواته الأولى في صياغة معالم ثورة عربية جديدة.
لهذا نجده في مقالة (ثروة الحياة) يفتش عن السبب الذي يحول بين الشباب السوري والثورة فيجده كامناً في عجز الحركات والنخب السياسية والفكرية عن الإفصاح عن فكرها بوضوح وبطريقة سهلة على إفهام الشباب، فأين نراه يجد ضالته؟
وجد أنه من حق الذين لم يهتدوا إلى الطريق الثوري أن يعرفوا فضائل المشروع الثوري الجديد. ولا تقف مضامين ذلك المشروع عند فوائده المادية إذا ما أصاب النجاح، ولكنه يراه في تنمية الحياة في نفوس الشباب أولاً وقبل أي شيء آخر. فالاشتراكية، مثلاً، كأهم مبادئ العدالة الاقتصادية بين البشر لا يمكن أن تعني تساوي الناس في توزيع الطعام فحسب، فهي، أيضاً – كما يراها مؤسس البعث – ليست واسطة (لإشباع الجياع).. (ولا يهمه) الجائع لمجرد كونه جائعاً، بل للممكنات الموجودة فيه، التي يحول الجوع دون ظهورها … وينصرف إلى القيام بوظيفته الإنسانية). وإذا سئل عفلق عن تعريفه للاشتراكية فهو لا يراها في نظريات ماركس الجافة، ولكنها (دين الحياة وظفر الحياة على الموت)([14]).
يعطي عفلق للروح أهمية كبرى في الوصول إلى المعرفة وللعمق والغني الروحي اثر (غير قليل في تجنب التفكير السياسي والاجتماعي خطر السطحية وخطر الابتعاد عن طبيعة النفس الإنسانية وحقيقة متطلباتها). وان الفاقدين للتراث الروحي يصبحون (عرضة للشطط والخطأ الفظيع في الاتجاهات، لان تفكيرهم يكون مجرداً، رياضياً، وتنطلي عليهم سفسطات المنطق الصوري الجامد).
خلقت مطالعات عفلق، عن أصول الفلسفة القومية، في نفسه خميرة أدبية فلسفية، فجاءته الفكرة، من جراء ذلك (على مستوى إنساني لأعلى مستوى قومي خاص) ومن فهمه للإنسانية اكتشف الحقيقة القومية بشكل عام، وبالتالي حقيقة القومية العربية بشكل خاص. وتمثل الحقيقة القومية مكانة مشروعة بين الحقائق الإنسانية الخالدة، التي لا يمكن ان تتعارض مع الاتجاه الإنساني([15]).