البعث : الاستذكار التاريخي والمراجعة العقلانية!!
(في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي)
اسماعيل أبو البندورة
ذكرى تأسيس البعث تقدم لنا ايحاءات معرفية – سياسية متعددة لعل من أبرزها الايحاء بضرورة المراجعة العقلانية الفكرية – السياسية في كل المراحل والفترات باعتبار ذلك طريقا لفهم الممارسات وتصحيح المسارات، واشتقاق أفكار جديدة من صميم الواقع، وتجاوز الطقوسية والافتخارية في الحديث عن هذا التاريخ الموحي والمليء بالدلالات، ذلك أن الفضاء التاريخي الذي تأسس فيه البعث والظروف العربية المحيطة ومعطياتها في تلك الفترة تختلف جذريا عن الراهن العربي الحالي ومعطياته، أو تكاد تكون نقيضا له، ولذا فان المطلوب من التذكر الايجابي في المرحلة الراهنة أن يكون مغايرا في شكله وموضوعه عما كان في السابق، وأن يسعي لتقديم رؤى تتناسب ومكانة البعث السياسية وتقديم صور جديدة عن الواقع العربي في تحولاته وتغيراته من منظار بعثي استنهاضي كما درج عليه الحزب على مدى اشتغاله وتطوره، (ونستذكر هنا الاطروحات والأفكار الكبرى التي كان يتقدم بها مؤسس الحزب المرحوم الاستاذ ميشيل عفلق في مناسبات تأسيس البعث، وما كانت تتضمنه من أفكار استنهاضية حافزة، كما نستذكر الانتباه والتجسيد والاستمداد الخلاق للشهيد صدام للرؤى والأفعال الكبيرة من وحيها)
ولا يراد من هذه الايماءة المعرفية – السياسية عن كيفية استذكار البعث في المرحلة الراهنة، وما يتصل ويلحق بها من نقد ومراجعة، الانقلاب على ما يكوّن جوهر البعث وفكرته، وهو وحدته التنظيمية والسياسية والفكرية وتماسكه في وجه العواصف التي تهب عليه من كل الجهات في المرحلة الراهنة، وصعوبة المرحلة التي يجتازها الحزب في تثبيت مواقعه وتأكيد حضوره السياسي في الساحة العربية (وخصوصا في العراق العربي الأشم الذي تجري فيه أكبر وأضخم محاولة للقضاء على البعث فكرا وحضورا، ويواجه فيه أعضاء الحزب أكبر عملية اقتلاع واجتثاث وبربرية)، وجهاد الحزب الأكبر والمضني من أجل مواجهة محاولات الانقسام والاحباط والخروج عن القيم البعثية.
لا نريد من الاستذكار سوى أن يبقى أمينا على الثوابت والأفكار الكبرى التي جاء بها البعث ائتمانا عقلانيا ونضاليا، وهي أفكار أصبحت في عموميتها معروفة لدى أبناء الأمة العربية (على الرغم من محاولات التشويه والتحريف والتعتيم والتجريف والتهميش الاعلامي)، وجرى في العراق منذ عام 1968 وحتى تاريخ الغزو 2003 تجسيدها الى حد كبير، أي أن النموذج الفكري – السياسي الأخلاقي – النهضوي البعثي قدم أوراق اعتماده في القطر العراقي الى الأمة العربية والعالم باعتباره طرفا هاما في مشروع النهضة والوحدة والتحرر. كما أن ما أنجزه البعث في مواجهة الاحتلال والانتصار عليه، وما يقوم به الآن من اشعال ثورة في وجه حكم العملاء هو دلالة على الاستمرار والتجدد والمراجعة في أتون المعركة وسوح النضال، ذلك أننا أصبحنا نرى الفعل والممارسة النضالية تتجاور مع القراءة النضالية الواضحة، وأصبح الحزب يقاتل بالسيف والقلم في آن واحد، وهذا كما نرى ابداع نوعي جديد في تاريخ الحزب ندعو دائما ونؤكد على استظهاره في السياقات الجديدة للعمل القومي ووضعه أمام عقل من يؤمنون بفكر البعث وأمام العقل العربي بعمومه.
لقد أسقط هذا الابداع المقاوم كل ألوان ومحاولات تفكيك وحدة الحزب ورؤيته وتشتيت قدراته، وأبقى في الساحة رجال المباديء من البعثيين الصامدين الذين كانوا ولا يزالون يرون الضوء في نهاية النفق، ويضعون أمام أنظارهم أمثولة الشهيد صدام ورفاقة الأبرار نموذجا ومنارة يهتدون بها في أوقات الاظلام والظلام.
لقد كنا نشير ونميز دائما الى أن هناك فارق كبير بين النقد والنقض، ولذا نؤكد مجددا بأن دعوات الاجتهاد والتجديد التي تنطلق هنا وهناك في اطار نقد الفكر القومي والبعثي تحديدا لابد أن تبين وتفصح عن وظائفها وغاياتها وأدواتها المصطلحية والمفهومية وبواعثها المعرفية (وتلك مطالب أصبحت الآن متداولة ومشروعة في نطاق الفكر والتحليل والمراجعة وليست مطالب تعجيزية أو تعويقية للفكر)، وأن تتوخى وتحاذر ما يمكن أن يتغير ويحرّف في النقد ومقاصده، ليصبح أداة مضمرة في محاولات التفكيك وهدم المرجعيات الكبرى الجارية الآن بدل أن يكون دفعا للمسار والمسيرة.
اننا نستذكر لحظة التأسيس ونتستذكر معها المعاناة الكبيرة التي أنتجت فكرا وتجربة تاريخية نوعية نراها دائما تنبثق انبثاقة الفينيق، ولكنها تحتاج دائما أيضا الى فضاء من النقد والمراجعة يحررها مما يلتبس ويتلبّد في ثناياها وفي مجرى حراكها من الجمود العقائدي، والسلفية الفكرية، والطفولة الثورية.