بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أولا : المقدمة
في 25/3/2008 إندلعت في البصرة مواجهات بين القوات الحكومية التي يقودها المالكي ويهيمن عليها فيلق بدر وبين جيش المهدي، وإمتدت المواجهات لتسعة محافظات أخرى وتواصلت ستة أيام ثم عقدت هدنة إثر مفاوضات جرت في طهران وقم بين علي الأديب من حزب الدعوة وهادي العامري قائد فيلق بدر وبين ممثلي مقتدى الصدر، واشرف على هذه المفاوضات قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني التابع لحرس الثورة الإيراني. الهدنة تبدو هشة ومعرضة للإنهيار في أي وقت، إذ لا زال التيار الصدري يؤكد عزمه على مقاضاة رئيس الوزراء ووزيري الداخلية والدفاع بتهمة خرق الدستور، ولا زالت القوات الحكومية تقتل وتعتقل أعضاء جيش المهدي.
مواجهات البصرة وإمتداداتها عكست عمق الكارثة الإنسانية الإنهيار الأمني والتخبط السياسي الذي وصلت اليه أوضاع العراق المحتل، وأفرزت حقائق ساطعة لا بد من إستثمارها لإنقاذ العراق من الإحتلالين الأمريكي والإيراني.
ثانيا : أسباب وتوقيت المواجهة
قيل الكثير عن أسباب مواجهات البصرة بين فيلق بدر وجيش المهدي، ومن ذلك موضوع إنتخابات مجالس المحافظات المقبلة وحاجة المجلس الأعلى وحزب الدعوة إلى تحجيم المنافسين الصدريين، وموضوع الصراع على أموال النفط المهرّب (وهي لا تقل عن عشرة مليارات دولار سنويا) وتجارة المخدرات والسلاح، بل أن البعض شبهه بصراع حركة أمل وحزب الله على زعامة الشيعة في لبنان في مطلع الثمانينات. وهذه كلها تحليلات لظواهر ما يطفو على السطح، أما في الجوهر فإن فيلق بدر وجيش المهدي ليسا نتاج واقع موضوعي عراقي، بل هما ظاهرتان مصطنعتان خلقهما الأجنبي. فيلق بدر هو ميليشيا إيرانية دخلت العراق بعد الإحتلال الأمريكي وهيأ الإحتلال لجناحها السياسي (المجلس الأعلى) السيطرة على مؤسسات الحكومة المنشأة في ظل الإحتلال، وهي بالنتيجة مزدوجة الولاء لإيران وأمريكا مع أفضلية إيرانية. وجيش المهدي هو ميليشيا أسست بعد الإحتلال من العاطلين عن العمل من (البروليتاريا الرثّة) التي تبحث عن قوت يومها، وتكفل فيلق القدس الإيراني بتمويل وتسليح وتدريب جيش المهدي والإشراف عليه. وتسامح الأمريكان مع جيش المهدي وسمحوا لمنتسبيه بالإنخراط في سلك الشرطة لإنهم رأوا فيه أداة مثالية لتأجيج الفتنة الطائفية. وفعلا كان لجيش المهدي القدح المعلّى في المذابح الطائفية وبالذات منذ شباط 2006. كما سمح الأمريكان للتيار الصدري الذي هو الواجهة السياسية لجيش المهدي بالمشاركة في العملية السياسية المنشأة في ظل الإحتلال وأعطوه وزراء ونواب.
وهكذا يتضح أن فيلق بدر وجيش المهدي هما من أدوات الإحتلال الأمريكي –الإيراني للعراق، وكلاهما يعتمد على المحتلين الأمريكان والإيرانيين تمويلا وتسليحا ورعاية، وإن صراعهما الحالي هو تعبير عن تنازع الإرادات بين المحتلين، ومن السذاجة تجيير نتائج مواجهة البصرة الأخيرة لصالح أي منهما فهما ليسا أكثر من وقود محلّي لصراع المحتلين.
أمّا توقيت إندلاع المواجهات، فيبدو أنه جاء لحسابات سياسية وعسكرية للأمريكان والإيرانيين.الولايات المتحدة تسعى لتحجيم جيش المهدي لإنها تخشى أن يكون أداة إيران الضاربة في حالة حصول مواجهة عسكرية أمريكية إيرانية أو غربية إيرانية، كما تسعى بنفس الوقت لإضعاف حكومة المالكي بهذه المواجهة لتجعلها أكثر إرتباطا بالمحتل الأمريكي من أجل تمرير الإتفاقية الثنائية وقانون النفط والغاز التي تأمل منهما تأبيد الإحتلال والهيمنة على نفط العراق.أما إيران فقد وزعت بيضها على جميع السلال وهي تحرك كل الميليشيات والأحزاب والشخصيات الطائفية التابعة لها وفق خطة محددة هدفها إيصال أمريكا الى القناعة بأن لا بديل لها غير التفاوض مع إيران لتقسيم الغنيمة العراقية والقبول بالبرنامج النووي الإيراني كأمر واقع مثلما حصل في الباكستان.
ولإن شعب العراق عريق أصيل موحد، ولإن المقاومة العراقية هي الظاهرة الشرعية الوحيدة في الواقع العراقي الحالي، ولإن المحتل الإنكلو-ساساني يسير عكس حركة التاريخ، فقد جاءت نتائج هذه المواجهات بالإتجاه المضاد للمشروعين الأمريكي والإيراني، وهذا ما سنحاول إيجازه في الفقرة التالية.
ثالثا : الحقائق التي تكشفت خلال مواجهات البصرة :
1– أثبتت حرب الميليشيات فشل أمريكا وإيران في إلغاء الهوية الوطنية العراقية وإستبدالها بهويات طائفية وعرقية. لقد أثبتت المواجهات الأخيرة أن لا بديل للهوية الوطنية العراقية، وأن الهوية الطائفية هي وهم وهرطقة تتناقض مع روح الإسلام ومع عروبة العراقيين ووطنيتهم وإتسانيتهم. ولم تستطع الطائفية خلال خمس سنوات أن تأتي بأي قاسم مشترك حتى بين الرعاع والمغفلين. لقد فرقت الأحزاب والميليشيات الطائفية أهل الطائفة الواحدة ولم توحدهم، ففي البصرة وحدها هناك خمس وعشرون ميليشيا كلها تدعي الإنتساب لآل البيت والدفاع عنهم، وهناك أربعون حزبا طائفيا شعاراتها الله وأهل البيت والمهدي المنتظر والمراجع العظام، لكنها كلها بلا هوية ولا مبدأ ولا جذور، ولذلك تراها تبحث عن إستمرارية البقاء من خلال الولاء للإجنبي، ومن خلال إرتكاب أكثر الأفعال خسة ودناءة كالقتل والنهب والإغتصاب والسرقة وتجارة المخدرات وذبح أي منافس حتى وإن كان يرفع مثلها شعارات طائفية.
2– أظهرت مواجهات البصرة هشاشة النظام السياسي والأمني المنشأ في ظل الإحتلال. فما تبجحوا بإنها مؤسسات ديمقراطية دستورية، ومنها المجلس الوطني للامن القومي وهيئة الرئاسة ومجلس النواب ومجلس محافظة البصرة إحتقرها المالكي وصادر صلاحياتها في حملته في البصرة، تماما كما كان يفعل وثنيو الجاهلية في آلهة التمر التي يصنعونها : يسبحون بحمدها وهم شبعى ثم يأكلونها عند الجوع.
أما قوات الجيش والشرطة فقد أثبتت مواجهات البصرة وإمتداداتها في بقية المحافظات أنها ميليشيات ولاؤها للإحزاب الطائفية والعرقية وبعضها ولاؤها لفرد مثل فوج الطواريء الذي يقوده صهر المالكي. عندما طلب المالكي من الجيش والشرطة القتال تصرفوا حسب إنتماءاتهم : إنضمّ الصدريون بإسلحتهم الى جيش المهدي وإعتزل جماعة الفضيلة القتال وقاتل فيلق بدر تحت إمرة المالكي والبولاني. لقد فوجيء الأمريكان بمدى خضوع القوات النظامية للميليشيات، وبدأت الإدارة الأمريكية تطالب بإعادة النظر بهذه القوات كونها (ليست جيشا وطنيا) حسب تعبيرهم. ومن جانبهم قال الصدريون (ان قوات الشرطة والمغاوير ما هي الا أجهزة قمعية مليشياوية تابعة للاحزاب الحاكمة في السلطة).
3 – أصبح واضحا للجميع دور إيران التخريبي افي العراق. في مواجهات البصرة إستخدمت إيران صراع الميليشيات والأحزاب الطائفية التابعة لها لإيصال رسالة الى الأمريكان دون أدنى إعتبار للكوارث الإنسانية الناتجة عن هذا الصراع، بل ودون أدنى إعتبار لمصير أعضاء الميليشيات ذاتهم الذين سقط منهم المئات وجرح منهم الآلاف. وهذا دعا الكثيرين ممن كانوا يسكتون على جرائم إيران الى إدانة هذه الجرائم. فهذا السيد ضياء الشكرجي القيادي السابق في حزب الدعوة، وهو رجل لا يخفي أصله الإيراني ومتزوج من إيرانية، يؤنب بقسوة المالكي قائلا (حذرتكم من إيران، واليوم تشخصون التخريب الإيراني اللئيم، كما وحذرتكم من الغلو في تسييس المرجعية، وستعترفون غدا بصحة هذه الرؤية.). وأضاف (فكم ستحتاجون من السنوات لتعوا أهمية التصريح بالدور التخريبي لإيران…وبعد كم من السنوات ستفهمون خطأ دخولكم في قائمة طائفية،) وأضاف (يا إخواننا إما أن نكون سياسيين، فلا معنى عندها لأن نكون إسلاميين أو تشيعيين، وإما أن نكون وعاظا ودعاة للدين، فيذهب الوعاظ إلى حيث منبر الوعظ). ويذهب الى أبعد من ذلك فضح سلوك عملاء إيران بالقول (هل من المعقول أن يطالب قيادي إسلامي بتعويض العراق لإيران….. بينما يتحمل النظام السابق مسؤوليتها للسنتين الأوليين فقط؟ هل من المعقول أن البرلمانيين العراقيين الإسلاميين الشيعة لا يضمون أصواتهم إلى أصوات بقية الدول العربية بالمطالبة بحق دولة عربية هي الإمارات بجزرها الثلاث المحتلة من قوى الاحتلال الإيراني الغاشم؟… ثم أنتم ترون أن الأسلحة الحديثة المستخدمة من عناصر التخريب في العراق هي أسلحة إيرانية المنشأ وحديثة الصنع. حتى لو بقيتم تتعاملون سياسيا كشيعة، ولو إني أدين كل من يسيس الانتماء المذهبي، أفلا ترون كم هو الضرر الإيراني على شيعة العراق خاصة، وعلى عموم العراق وشعبه وأمنه واستقراره وقضاياه الوطنية؟). ويختتم مقالته بالقول (أن الانتساب إلى الائتلاف العراقي الموحد يمثل وصمة غير مشرفة لكل من ينتسب إليه). (أنظر مقال السيد الشكرجي في موقع كتابات في يوم 30/3/2008).
4 – تراجع دور المرجعيات الدينية الطائفية وغاب بريقها الزائف، حتى أن الدكتور هادي الحسني رئيس مؤسسة دراسات أهل البيت طالب الشيعة بأن (يلعنوا كل المرجعيات الذين يزرعون الفتنة والفساد بين الصف الشيعي الواحد كما زرعوا بذور الطائفية الخبيثة بين السنة والشيعة فآتت ثمارها المرة، وأفسدوا كل شيء في هذا الوطن الجريح…أفسدوا دينه وأخلاقه وقيمه وسياسته ومؤسساته،فما جاء الشر إلا من وراء هؤلاء، اليوم يجب أن يعترف قادة الشيعة بأنهم ليسوا رجال دولة وحكومة بل رجال فتنة وخصومة، ويجب أن يعترفوا بأنهم هم المسؤولون عن تدهور الأحوال السياسية والأمنية والإقتصادية والإجتماعية للعراق لأنهم هم من أوصلوه الى قاع الدمار والإنهيار). (مقال الدكنور الحسني المؤرخ 31/3/2008 منشور في العديد من المواقع الألكترونية)
5– دأبت الأحزاب الطائفية على التستر بالمناسبات الدينية وتجيير الزيارات المليونية لبسطاء الناس للمراقد المقدسة على أنها دعم لها وتصويت لصالحها. ولكن عندما إندلعت مواجهات البصرة وأراد المجلس الأعلى وحزب الدعوة إظهار شعبيتهما، لم يستطيعا جمع أكثر من عدة مئات من المتظاهرين مدفوعي الثمن أو الموعودين بالتعيين في سلك الشرطة.
6 – يتهم مسؤولو الأحزاب الطائفية أحدهم الآخر يإنه إفتعل المواجهة تحضيرا لإنتخابات مجالس المحافظات القادمة. إن هذا الإتهام هو إقرار ضمني بإن من يهيمن عسكريا في أي محافظة عراقية هو الذي سيقرر نتيجة الإنتخابات، وليس صنديق الإقتراع. وهذا ما حصل في كل الإنتخابات التي جرت في ظل الإحتلال وفي أية إنتخابات قادمة تحت الإحتلال. الإنتخابات لا شرعية لها في ظل الإحتلال (لا ديمقراطية بدون حرية) وهناك سبب إضافي يؤكد لا شرعيتها وتزويرها في ظل سطوة الميليشيات. إذا كانت الميليشيات تقتل غير المحجبات وتنسف أو تغلق بالقوة محلات الحلاقة ودور السينما ومحلات بيع الأشرطة الغنائية وتسرق النفط وتخطف الإبرياء من أجل الفدية وترتكب كل الموبقات، فكيف يتوقع منها أن تترك الناس أحرارا يدلون بإصواتهم في صناديق الإقتراع؟ ومن سيجرؤ على الترشيح للتنافس مع مرشحيهم؟
7 – مواجهات البصرة نبهت حتى من أعمت دعاوى (الفيدرالية) الزائفة أبصارهم الى مخاطر مثل هذه الفيدرالية المنفلتةعلى العراق، فإذا كانت الميليشيات الطائفية تغتصب سلطات الدولة وتدين بالولاء لدول أجنبية وتطلق العنان للغرائز الهمجية والفوضويه والفساد الاداري وتهريب النفط وجرائم الخطف والقتل قبل إقرار الفيدرالية، فكيف سيكون الأمر بعد إقرار الفيدرالية التي تتحول فيها الأقاليم الى كيانات إقتصادية وسياسية شبه مستقلة عن الحكومة المركزية؟
8 – المواجهات والحملات الإعلامية المتبادلة بين الميليشيات الطائفية بعد مواجهات البصرة كشفت بعضا من جرائم الإبادة التي ترتكبها هذه الميليشيات. ففيلق بدر عرض أفلاما تؤكد ضلوع جيش المهدي في موجة القنابل والإغتيالات ومنها مجزرة المخيم في كربلاء وغيرها. وجيش المهدي يقدم ادلة ووثائق عن جرائم قتل وإغتصاب وحرق جثث يقوم بها البدريون ضد الصدريين. وكالة أنباء الكوفة التابعة للصدريين فضحت تورط وزارة الداخلية منذ أيام صولاغ في تسهيل عمليات القتل على الهوية التي قام بها الصدريون في بغداد، حيث قالت (الدولة العراقية هي التي سمحت للصدريين باستخدام السيارات والتجهيزات العسكرية وغطاء وزارة الداخلية في تحركهم لحفظ بغداد العاصمة من الارهابيين، كما سهلت لهم تحركهم في بعض الوحدات العسكرية من وزارة الدفاع كما كانت اغلب الدوائر الحكومية تقدم لهم المعونات اللوجستية)
9 – أما رئيس وزراء حكومة الإحتلال الرابعة، فقد اثبت في مواجهات البصرة إنه لا يفهم في الإستراتيجية ولا في التكتيك ولا في السياسة ولا في الإعلام. فهو لم يحسم صراعه مع الصدريين ولا أرضى أمريكا التي غضيت عليه لإنه أسرع في توسيط إيران لعقد الهدنة، وإن الذي عقد الهدنة هو قائد فيلق القدس قاسم سليماني المشمول بالعقوبات الأمريكية وبعقوبات مجلس الأمن بتهمة تورطه في أعمال الإرهاب ونشر تكنولوجيا الأسلحة النووية والصواريخ.
يكفي للتدليل على تخبط المالكي التذكير بتصريحه يوم 31/3/2008 قائلا (أن الخطة الأمنية التي جاء من أجلها إلى البصرة لم تبدأ بعد) وفي اليوم التالي أي في الأول من نيسان صرح قائلا (لقد حققت الخطة الأمنية في البصرة أهدافها). ولعلنا نعذر الرجل في هذا التخبط، فخدمة إيران وأمريكا في آن واحد هو أمر لا يستطيع حتى عمرو موسى فعله، فكيف بالماالكي!!
رابعا : الخلاصة
أصبح واضحا الآن إن المطلوب أمريكيا وإيرانيا هو إبقاء حالة الفوضى والإضطراب والتمزق في العراق. الهدنة الحالية مؤقتة وحرب الميليشيات بالنيابة قد تندلع في أي وقت، كما أن المواجهة المباشرة بين امريكا وإيران ليست مستبعدة. العراقيون أصبحوا أكثر من أي وقت مضى مدركين لمخاطر المشروعين الأمريكي والإيراني على وطنهم. الإحتلال الأمريكي ينهزم كل يوم والطائفية وإيران تنهزمان كل يوم في العراق والمقاومة تتصاعد والإيمان بعدالة قضيتنا في العالم يتصاعد.
إن هذا التطورات تفرض على المقاومة العراقية المزيد من رص الصفوف ومضاعفة عملياتها لهزيمة المحتل وإخراجه من العراق. ومطلوب من القوى الوطنية العراقية تكثيف جهودها السياسية والثقافية لإنتشال المغرر بهم من أبناء شعبنا من براثن الأحزاب الطائفية وميليشياتها. ومطلوب منها أيضا تكثيف جهودها في المجالين العربي والدولي لإدامة زخم الرفض الدولي للإحتلال الأمريكي والإيراني للعراق، والنصر صبر ساعة.
والله المستعان
نشر في : شبكة البصرة