منى عباس فضل*
من علو سطح منزل متهتك، في حي ينتشر فيه الفقر كوباءٍ مزمنٍ بإحدى قرى الاحتجاج الشعبي، تتحرك الكاميرا بثبات، تلتقط تسجيلاً مرئياً وصوتياً لامرأة شابة تتدثر بعباءتها السوداء.
عزلاء تحتضن يدها يد طفلها ذي الثلاثة أعوام، تجره خلفها، تسير غاضبة ملوحة بكف يدها تجاه فرقة مرتزقة راجلة قوامها يفوق الخمسة أفراد وسط حي سكني، مدججين بأسلحتهم من (رصاص شوزن ومطاطي، قنابل غازات سامة وهراوات). سلاحها الوحيد، شجاعة وصرخات من جوف قهر يخترق أزيز الصمت النسائي الرسمي "المبهم" وتقاريره النحوية. تصرخ فيهم بقوة لكنتها القروية:
– "مو" أرضكم هذي، دبحتونا والله ما دبحتونا، بنموت وبنحيا فيها، هذي أرضنا.. إحنا بحرينيين.
"صوت طلقة باتجاهها".. ترد عليها بتحد:
– ماني خايفة.. هذي الله يشوفنا.. نحن شهداء.. شهداء..
يشتد الطلق المصوب نحوها بتتال هذه المرة، تستمر في صراخها "ماني خائفة ونحن شهداء..". أصوات نسوة يتلحفن السواد يقفن على جانب الطريق وأمام أحد المنازل، ينشدن الحذر. جدران المنزل تصطبغ بأثر شعارات احتجاجية ومطلبية مسحت عباراتها لطمر مضمونها. يستمر الطلق هستيريا هذه المرة، تهتز إثره كاميرا الراصد في الشرفة، فترتد للخلف، ثم تواصل عملها.
بلكنة عربية مكسرة يأمرها أحد المرتزقة، بالعودة على أعقابها للبيت:
– يللا "روهي" داخل، يللا، "دشي" داخل، يللا، قلت لكِ "دشي" داخل!
يقصد بالطبع أن تدخل بيتها وتستر على حالها.
ترد عليه بتحد:
– ماني داخلة!
لو تأملنا أبعاد المشهد، تعبيره عن الفعل السياسي، فهو لا يعني شيئا البتة للمتربعات في صالونات الثرثرة وفي غرفهن المغلقة، من المواليات والمتنفذات اللاتي أصبحن جزءا لا يتجزأ من منظومة آلة التسلط والهيمنة وتبرير القمع وإفرازاته. كما انه – أي الفعل الاحتجاجي للشابة – لا يرقى بنظر بعضهن الآخر للفعل السياسي الحقيقي، بحسب مفهوم معياري يعرِّف "تمكين المرأة" سياسياً، كما يعتقدن بيقين. لماذا؟ لأنهن أسيرات التقوقع في ماضيهن السياسي الذي لا يتواصل مع الحاضر ولا المستقبل. وفي هذا الأمر معضلة.
بيد أن ثمة معضلة جوهرية أخرى تكمن في حال من يواجه هذه الأم الشابة، لها علاقة بهؤلاء المرتزقة المستجلبين العابرين. هؤلاء اتخذوا مواقعهم وخضوعهم لسلطة الأمر في شارع الاحتجاجات ويمارسون القمع الممنهج، منفصلين عن الزمن. وهم ينازلون امرأة تمارس حقها التعبيري وفعلها "الاحتجاجي السياسي" بامتياز في الشارع. وقد يدعم عملهم الامني الارتزاقي "قناعات" تخفف عنهم من قبيل أنه لا يجوز بنظرهم تسلل هذه الإنسانة إلى عالم السياسة، والرجال، لا سيما مشاركتها في احتجاجات وثورة الشارع.
فهذه فوضى عارمة كما يفهمها ويستشعرها "المرتزقة". وهو يستند (ربما) الى تنظيرات "المتشددين" دينياً (هل من تسمية أخرى أكثر توفقاً؟). الفوضى، أن يُزعزع استقرار الضوابط الاجتماعية، حيث لا تراعي النسوة الثائرات المحتجات حدود الفضاء العام المقدس، الذي انتهك بمشاركتهن في ثورات الربيع العربي واحتجاجاته. وقد تتبعنا رد الفعل في تكرار المشهد بجميع ميادين الثورات: قتل واغتصاب وسحل وضرب واعتقال وصفع وإهانات للنساء.. الخ. تماما هي الفوضى كما شرحتها المغربية فاطمة المرنيسي مرة بأنها "كل انتهاك للحدود يقود حتماً إلى الفوضى والمصائب.. فالحدود في رؤوسهم وهمية، وهي لا توجد إلا في رأس من يملك السلطة". وأضيف اليها من يمسك عصا القمع والبطش!
من هنا، فالمرأة في حضورها الثوري الاحتجاجي بنظرهم دخيلة، لا يمكن أن تكون عند "المرتزقة" ومن يمثلونهم ويدافعون عنهم إلا "عدوا"، بل ان مجرد صراخها وتلويح يدها في هذا المكان العام (حيز الشارع الاحتجاجي)، يعد بحد ذاته عملاً هجومياً مباشراً من قبلها يتطلب الرد، لا سيما ان تأثيره لا يقتصر على زعزعة النظام السياسي فقط، إنما الاجتماعي أيضا. فهو ضد منظومة القوانين والتشريعات والرموز، إنه اعتداء مباشر يستوجب رده إلى قعر داره حفاظاً على الأمن والاستقرار.
وظيفة "المرتزقة" ودورهم لا يقتصران على حفظ الأمن بالاعتقال وإطلاق الرصاص والغازات السامة على النساء وشتمهن ورميهن بأقذع الألفاظ. إنما يبدو كأنهما يمارسان ضبطاً اجتماعياً يتخذ صورة النهي والصراخ وإصدار الأوامر بهدف حجب صوتهن (العورة والمعارض معاً).
*باحثة من البحرين ـ السفير اللبنانية