محمد حسن العرادي
طوال عقود من الزمن مرت بلادنا البحرين بالكثير من الأزمات والمحن التي تداخل فيها الشأن السياسي بالشأن الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وبين كل هذه الشئون كان الرابط الأساسي الذي شغل البلاد والعباد هو الهاجس الأمني الذي سيطر على مختلف مظاهر الحياة وتحكم في صياغة الأولويات الحياتية، حتى أضحت مقولة «الأمن أولاً» واقعاً يعيشه الجميع كلٌ بحسب الجهة التي يقف فيها.
ويعتبر الاستعمار البريطاني هو المسئول الأول عن زرع سياسة القمع ونشر سياسة الخوف وبسط النفوذ الأمني حين بسط سيطرته على البحرين والخليج عموماً، منذ معاهدة السلم العامة التي وقعتها بريطانيا مع البحرين في العام 1820، هذا الاحتلال الذي استمر تحت مسميات مختلفة حتى نيل البحرين استقلالها في 14 أغسطس/ آب من العام 1971.
وقد وقعت البحرين العديد من الاتفاقيات مع بريطانيا، منها اتفاقية 31 مايو/ أيار 1861 مع الكابتن فيلكس جونز نيابة عن الحكومة البريطانية، ثم اتفاقية الحماية التي وقعها الكولونيل اي سي روس في العام 1880 مع حاكم البحرين. ثم وصل تشارلز بلغريف البحرين بصفته مستشاراً للحكومة في الفترة 1926 – 1957 فكان مشرفاً على معظم الأجهزة وعلى رأسها الجهاز الأمني، وقد ساهم بلغريف في زرع الخوف في قلوب أبناء شعب البحرين، وأسس للفتنة بين مكوّناته من خلال السياسة التي رسّخها لأكثر من 30 عاماً من التدخل والتحكم في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، ولم يغادر بلغريف إلا بعد أن فاجأه شعب البحرين بتوحده وانخراطه في تشكيل هيئة الاتحاد الوطني في حسينية بن خميس بالسنابس في أكتوبر/ تشرين الأول 1954، لكن هذه الهيئة التي قادت انتفاضة البحرين الكبرى في العام 1956 انتهت باعتقال قادتها ونفيهم إلى جزيرة «سانت هيلانة»، في فصل آخر من فصول المعالجات الأمنية التي قادها هذا المستشار البريطاني.
وبعد فرض بلغريف لبنات السياسة الأمنية الغليظة، تولى أيان هندرسون تأسيس نظام أمني شديد القسوة، ذاق منه الوطنيون البحرينيون عموماً أشد أنواع العذاب والقسوة حد الاستشهاد والتغييب في الطوامير والنفي للخارج. وقد أثمرت هذه السياسة حنظلاً ذاق منه الشعب الويلات والآهات والحزن والكمد، ونجحت هذه السياسة في تمزيق جسد الأمة ونشر الشك والخوف والتوجس بين مختلف مكونات المجتمع.
وإذا كان الاستعمار البريطاني قد أنشأ وطوّر هذه المنظومة الأمنية القاسية التي تعاملت بالحديد والنار وقمعت الكثير من التحركات والتيارات السياسية والثورات الاجتماعية، فإن هذه المنظومة تغلغلت في كل مناحي الحياة، وأفرزت لاحقاً قانون أمن الدولة بعد تعليق العمل بدستور 1973 إثر حل المجلس الوطني في 23 أغسطس 1975، بعد عام ونصف فقط من انطلاق التجربة الديمقراطية بعد الاستقلال في 1971.
لقد لعب بلغريف ومن بعده مواطنه هندرسون، أدواراً سيئة جداً ساهمت في تركيز نهج أمني متسلط ركز استراتيجية الأمن أولاً، الأمر الذي زرع الكثير من الريبة والشك والقلق بين أفراد الشعب ومكوناته، مصوّراً أي تحرك جماهيري على أنه مسعى أو مؤامرة للانقلاب على الحكم. وقد قسّمت هذه العقلية الشعب إلى أصدقاء وأعداء تارة، وإلى موالاة ومعارضة تارة أخرى، وإلى متآمرين ومؤيدين في أغلب الأوقات. ووفق هذه التقسيمات صارت البلاد تعيش هاجس الخوف وانتشار وتغلغل النظرة الأمنية في المجتمع، فصار هناك الكثير ممن يرصدون دبيب النمل، وكان بعضهم يبتكر ويتفنن في صناعة الأخبار التي تسهم في صعود نجمه وتقربه، حتى أضحت هذه الجزيرة الصغيرة بوابة حزن وخوف للكثير من أبناء شعبها.
لقد نجح الاستعمار المعروف بنظريته العالمية «فرق تسد»، في زرع بذور الفرقة والشقاق، وهكذا تقبل الكثيرون هذا المآل والعيش وفق التقسيمات المريضة، وصارت بعض الفئات تتنافس في تقديم كل ما تتقرب به في سبيل الاستحواذ على النصيب الأكبر من المؤونة والمعونة والمناصب المصونة. بل إن بعض النافذين جعل يفرض أتاوات وغرامات خاصة به يصب ريعها في جيبه مباشرة، مستغلاً الوضع الأمني الذي صار مقلقاً، فلا تمر بضع سنين دون اكتشاف خلايا تخطط لانقلاب، ولا ينقضي عقد دون اكتشاف تنظيمات سياسية مرتبطة بالخارج!
وفي هذه الأجواء المتوترة تزداد الإشكالات وكذلك الحاجة إلى سجون ومراكز جديدة، ويصبح الحديث في أي شيء ممنوعاً مخافة أن يفسر تفسيراً سيئاً ويذهب صاحبه وراء القضبان ويصبح في خبر كان.
واللافت للنظر أن معظم من دخلوا السجون خلال تلك الفترات كانوا من المثقفين والمتعلمين، أطباء ومهندسين وشعراء وأساتذة جامعات ومحامين ومعلمين، فضلاً عن الطلبة والقيادات العمالية، وهكذا ضمّت الزنازين خيرة شباب البحرين وعدداً من نسائها أيضاً، وأمست الكثير من الأسر تعد الشهور والسنين في انتظار عودتهم إلى بيوتهم.
لقد خلق هذا الجو إحباطاً شديداً لدى هذه الفئات التي كان همّها المساهمة في التغيير الإيجابي من خلال بث الوعي وتطوير التجربة وتعزيز الانفتاح على الآخر، إلا أن تجربتهم ومساعيهم أجهضت في مراحلها الجنينية، رغم أن بعض نتائجها الإيجابية لاتزال ماثلة للعيان وتشكل ظواهر اجتماعية متميزة، وخصوصاً تلك المتمثلة في الزيجات المختلطة التي ساهمت في انفتاح مكونات المجتمع على بعضها، وعزّزت من متانة النسيج الاجتماعي من خلال تداخل الأسر البحرينية وتشابكها، لكن الهاجس الأمني تدخل حتى في هذا الجانب الأمر الذي لم يؤدِّ إلى إيقاف هذه الظاهرة الجميلة بل دفع لفسخ عرى التواصل العائلي في كثير من الحالات، من خلال إنهاء زيجات مختلطة ناجحة والقذف بثمارها من بنين وبنات على قارعة الطريق في هجير التمزق الاجتماعي والتنازع الطائفي.
وعندما بدأ العهد الإصلاحي ووقف العمل بقانون أمن الدولة الذي كان يسمح بالزج بأي مواطن في السجن ثلاث سنوات دون محاكمة، وإلغاء محكمة أمن الدولة وتبييض السجون والسماح بعودة المواطنين من المنافي، استبشر الجميع خيراً وتأقلموا سريعاً مع عصر الانفتاح السياسي، فانتظم كثير منهم في الجمعيات السياسية وانتهى عصر العمل السري، واعتقد الناس أن بانتهائه انتهت سيطرة الهاجس الأمني، وانطلقت القيادات المجتمعية لتصوغ توجهاتها وتستخدم الأدوات التي وفرها عهد الانفتاح السياسي لبناء هياكل سياسية علنية تستقطب الناشطين السياسيين القريبين من هذه التوجهات، وأزيح عن كاهل المجتمع كثير من القلق والتوجس والخوف من الآخر، وصار الناس يتحدثون بحرية وبصراحة عن طموحاتهم وتطلعاتهم التي تنطلق من فهمهم لمواد الدستور والميثاق. إلا أن الهواجس الأمنية عادت من جديد بمسميات جديدة وأدوات مختلفة.
لقد عادت نغمة اكتشاف الخلايا الأمنية والمؤامرات الانقلابية، وأضيفت لها تهم جديدة لم نسمع بها من قبل مثل التهجم على طائفة والتحريض على كراهية النظام وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي…، وهكذا عاد الاحتقان الأمني بشكل مثير للحزن والأسى، وعادت حكايات السجون والمعتقلات والمنافي من جديد.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تحتاج البحرين لكل ذلك؟ أم هي بحاجة للبحث عن البدائل الأقل كلفة والأفضل نتيجة والأطول تأثيراً؟
إن الأمر ليس معقداً ولا تبدو الإجابة بحاجة إلى تقديم أي دليل على أن الحوار والانفتاح على الآخر وإتاحة الفرصة للجميع للمشاركة في بناء البحرين الجديدة التي يفخر بها كل أبنائها، هو الحل الأمثل. فقد أنجز ذلك ملك البلاد قبل أكثر من عشر سنين، ولم نعد بحاجة سوى إلى وقفة تقييم وربما إلى أن نختار طريق المراجعة الموجعة التي تعيد البلاد إلى عهد الانفراج والانفتاح والعودة إلى سكة الإصلاح التي بدأت العام 2001، والتي أنجزت توافقاً على ميثاق العمل الوطني بنسبة 98.4 في المئة غير المسبوقة.
عندها لن تكون البلاد بحاجة إلى محاكمة أمين عام جمعية الوفاق الشيخ علي سلمان والحكم عليه بأربع سنوات، وهو من يعرف الجميع التزامه مبادئ السلمية والصوت المتزن.
كما لن تكون البلاد بحاجة لحجز حرية العديد من الرموز والشخصيات السياسية وسجن آلاف الشباب، كما لن تكون هناك حاجة إلى زيادة نفقات الأمن وحالة الاستنفار الدائمة، فأمن الوطن من أمن مواطنيه ومسئوليتهم أيضاً. وعندما تفتح آفاق الحوار الحقيقي الهادئ الذي يضمن مواطنة متساوية لجميع المواطنين دون تمييز أو تفرقة بسبب انتماء مذهبي أو عرقي أو جنسي. مواطنة تضمن حرية الرأي والمعتقد والتعبير دون إساءة أو تعدٍّ على حقوق الآخرين، عندها سيصبح بالإمكان التوصل إلى تفاهمات تقود الوطن نحو بر الأمان والتطور بعيداً عن الاحتقان والتوتر.
وخلاصة القول… حاوروهم ولا تسجنوهم، فالحوار يؤدي إلى مزيد من التفاهم والانسجام، والسجون تؤدي إلى مزيد من العداوات والخصام. والوطن لا يحتمل ولا يستحق إلا المزيد من المحبة والسلام والتواصل بين مختلف مكونات المجتمع في سبيل رص الصفوف والخروج ببلادنا من أزمة 2011 التي تكاد تداعياتها تودي بالوطن ومنجزاته كلها.