ها هو سعر البترول قد عاود تذبذبه التاريخي المعروف فهبط من مائة وخمسة وخمسين دولاراً للبرميل إلى مائة وخمسة عشر دولاراً خلال فترة وجيزة لا تزيد على بضعة شهور، وبهذا خسرت حكومات الدول العربية المنتجة للبترول حوالي ربع دخلها من عائدات البترول. فإذا أضيف إلى ذلك ما خسرته تلك الحكومات بسبب زيادة مصاريفها بمقدار حوالي خمس وعشرين في المائة من جراء زيادات الرواتب والمنح لموظفيها وارتفاع أسعار المواد بجميع أصنافها والصعود الكبير في كلفة كل أنواع الخدمات المحلية والدولية. إذا أضيف كل ذلك فإن ما خسرته تلك الحكومات يصل في الواقع إلى حوالي خمسين في المائة من عائدات البترول.
وللتذكير فإن الدول نفسها قد واجهت الوضع نفسه في أواخر التسعينيات من القرن الماضي عندما هبطت أسعار البرميل من ثمانية عشر دولاراً إلى أقل من عشرة دولارات. ووصل الحال آنذاك ببعض الحكومات للتفكير جدياً بإعلان عدم قدرتها للاستمرار في دفع مرتبات موظفيها.
وللتذكير أيضاً فأن تاريخ النفط، عبر عمره كله، قد أظهر مراراً وتكراراً أن تاريخ أسعار كل السلع لم يعرف سعراً متذبذباً وغير قابل للتنبؤ وحساساً لأي تغييرات سياسية أو أمنية أو اقتصادية مثل سعر النفط. إنه سعر يعيش الخوف الدائم والقلق الذي لا يهدأ في كل الأوقات، سواء في فترات الازدهار أو في فترات الأزمات الاقتصادية. ذلك أن العوامل التي تؤثر فيه لا تعد ولا تحصى وارتباطه بسيرورة العصر أعقد من أن تفك طلاسمه.
ومن أجل أن تكتمل الصورة علينا تذكير أنفسنا بأنه منذ بضعة شهور فقط كانت حكومات دول النفط تتسلم البشائر بقوة ويومياً من مختلف العرافين وقراء البخت مؤكدين أن سعر برميل البترول سيصل إلى مائتي دولار. وهم ذات العرافين الذين تنبأوا من قبل بانتهاء عصر البترول خلال بضعة عقود وبقرب إحلال الطاقات غير البترولية البديلة في العقد الأول من هذا القرن.
نحن إذاً أمام صورة بالغة التعقيد والغموض والتغير الدائم. والتعامل معها بالخفة والتبسيط التي تتعامل بها دول البترول العربية لهذا الموضوع سيؤدي شيئاً فشيئاً إلى إضافة مأساة عربية جديدة إلى مآسي العرب الكثيرة الأخرى.
هل من بديل؟
نعم، هناك مسار التعامل الجدي الذي سيأخذ الآتي بعين الاعتبار:
أولاً: نعيد مع غيرنا للمرة المليون القول إن الصورة التي رسمنا سابقاً لحالة أسعار البترول تستدعي أن تعتبر فترات تحسن أسعار البترول فرصاً تاريخية لاستعمال الفوائض في تحقيق خطوات تراكمية لبناء اقتصاد إنتاجي واقتصاد معرفي بدلاً من الطريقة المفجعة الحالية التي تقتصر على المضاربات العقارية ومضاربات الأسهم العبثية وبناء مدن عولمية سياحية أو استيطانية لملايين الأغراب من غير العرب وصرف مدخرات الأجيال الحالية والقادمة في بذخ استهلاكي نهم.
وإذا كانت هناك حكومات لا تعرف معنى الاقتصاد الإنتاجي والمعرفي فلتسأل أهل الاختصاص ليعلموها بأنه أكثر من بناء بروج عالية وأكبر من تقديم تسهيلات لمجيء، وهو حتماً سيكون مؤقتاً، شركات أجنبية من وراء البحار وأعقد من إقامة خدمات موسمية لهذا النشاط أو ذاك.