الانهيارات على الصعيد الوطني في غياب الحماية القومية
د. عبده شحيتلي
بيّن الدكتور عبد العزيز الدوري ،في دراسته عن التكوين التاريخي للأمة العربية ،حقيقة الهوية العربية التي ابتدأت بالتكوين منذ القرن التاسع قبل الميلاد ،حيث كانت الجزيرة العربية مهد مجموعة من الشعوب التي نشأت في بيئة طبيعية واحدة واصول لغوية واحدة ، وآخر مجموعة توسعت خارج الجزيرة العربية هم العرب الذين كوّنوا فيما بعد الحضارة العربية الإسلامية التي تمثلت بالحضارات السابقة ، في حين دخلت الشعوب التي خرجت من الجزيرة سابقاً في إطار الأمة العربية في التاريخ [1].
تبلورت هذه الهوية العربية ،باعتبارها هوية ثقافية حضارية، مع اكتمال الرسالة الإسلامية التي حمل لواءها العرب، لتتفاعل في إطار الخلافة العربية، الثقافات : السريانية، واليونانية، والفارسية، والهندية مع الثقافة والقيم العربية ، فتنتج مركباُ ثقافيا حضارياً قاد الإنسانية وسار بها الى الأمام على مدى يزيد عن الأربعة قرون .وقد أدى هذا المسار الى النهضة الأوروبية الأولى التي تمثلت بتأسيس الجامعات الأوروبية التي كانت مراجعها الأساسية من المؤلفات العربية أو المعربة عن اليونانية التي نقلت الى اللاتينية .
لقد مهد ذلك لعصر النهضة الأوروبية في القرنين الخامس والسادس عشر المتمثل بالثورة العلمية ،وقيام الدولة الحديثة ،وسيادة مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، في حين باتت المجتمعات العربية خاضعة للسلطنة العثمانية باعتبارها ، بمعنى من المعاني، وريثة للخلافة الإسلامية ، حيث عاشت الشعوب ، ومن بينها العرب ، في ظل قدرات عسكرية كبيرة غير متناسبة مع التطور العلمي والسياسي والاجتماعي الذي عرفه الغرب وتخلف عنه المسلمون والعرب .
في القرن التاسع عشر بدأت الهوية العربية بالتمايز والتعبير عن ذاتها من خلال مجموعة من المفكرين ،والجمعيات السرية التي عملت للاستقلال وجاهرت بذلك في المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس عام 1913 ، وقد انتبهت الدول الاستعمارية الغربية لأهمية هذه المجتمعات العربية الممتدة على الجانبين الشرقي والجنوبي للبحر الابيض المتوسط واهمية السيطرة عليها ،فكانت حملة بونابرت على مصر والحملة الاستعمارية على مشروع محمد علي باشا وابنه ابراهيم في مصر وبلاد الشام .وقد لاحظ جمال الدين الأفغاني بفعل خبرته المباشرة المرتبطة بتنقله في مختلف البلدان الخاضعة للسلطنة من الهند الى مصر "أن خطر انكلترا كان أشد من خطر أي دولة اخرى "[2] .
كان الأفغاني يعتبر الحكومة البريطانية عدوة المسلمين ولم يكن يخيفه منها الهجوم العسكري فحسب بل الوسائل الأخرى ،والتي كانت ،بنظره ،اشد وادهى . يقصد بلك اعتمادهم اساليب الخديعة وزرع بذور الشقاق من اجل السيطرة كما فعلوا في الهند وغيرها .
يشير الدكتور انيس الصايغ في مذكراته انه وجد في جريدة "التايمز" في الفترة ما بين العامين 1904 و1907 آلاف الإشارات الى مؤتمر استعماري شارك فيه مجموعة من كبار العلماء والخبراء في التاريخ، والاجتماع، والجغرافيا، والزراعة، والبترول والاقتصاد من الدول الاستعمارية الغربية ، ورفع توصياته ،سنة 1907 ،الى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان ، ومن بينها انشاء كيان غريب في غرب البحر المتوسط ليكون بمثابة قلعة متقدمة تحمي المصالح الغربية . وهذا ما تم تأكيد العمل عليه في وعد بلفور عام 1917 ليكتمل السياق الذي بدأ مع لقاء تيودورهرتزل برئيس الوزراء البريطاني جوزيف تشمبرلن سنة 1902 حين طلب هرتزل أن تكون فلسطين دولة حاجزة بين شرق المتوسط وجنوبه بحيث تؤمن المصالح البريطانية .
هذه المصالح البريطانية خاصة ،والغربية الاستعمارية عامة، انتبهت الى ان انهيار السلطنة العثمانية سيؤدي الى قيام دولة تجسد حقيقة الهوية العربية، اي تحول الأمة العربية الى دولة، وذلك يشكل الخطر الأكبر على المصالح المستقبلية للدول الاستعمارية عامة والبريطانية خاصة .
كان لورنس العرب حاضراً في الحجاز ، وكانت رسائل الحسين – مكماهون مصداقاً لما أكد عليه الأفغاني، والنتائج التي انتهت اليها اتفاقية سايكس – بيكو عبرت عن نجاح المستعمرين في تحقيق اهدافهم المتمثلة بمنع قيام الدولة العربية الواحدة على جزء واسع من ارض الأمة ، وتقاسم النفوذ في مشرق الأمة ومغربها ،وهذا ادى في نهاية المطاف الى قيام الدول القطرية بحدودها المكرسة شرعيتها دولياً ،والنجاح في زرع الكيان الغاصب في قلب الأمة.
هكذا؛ كان المآل الذي انتهت اليه حقبة الاستعمار في الوطن العربي ، هو الدولة القطرية باعتبارها أقصى ما يمكن أن تسمح به المصالح الفرنسية والإنكليزية التي اخلت مكانها ، الى حد بعيد للهيمنة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية بحيث بات واقع التجزئة، وواقع ارتباط مصالح فئات تسلمت الحكم برعاية قوى الاستعمار، مضافاً الى واقع ثبيت الكيان الصهيوني بعد الحرب العالمية الأولى على ارض فلسطين للفصل بين مشرق الأمة ومغربها واستنفاذ كل مواردها من خلال الصراع العسكري ، بات كل ذلك الواقع يشكل حالة مركبة من التحديات التي تتطلب مواجهتها نضالاً قلما عرفته أمة من أمم العالم .
تميزت الحقبة الممتدة بين خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين بالنضال العروبي الذي حمل رايتي النهضة من ناحية والصراع مع الاستعمار والعدو الصهيوني من ناحية أخرى ، فكانت له انجازات وإخفاقات تفسر بأسبابها الذاتية والموضوعية . ولكن المسار الذي راكمه النضال العروبي في هذه الحقبة بدأ اتجاهاً انحدارياً مع صعود حركات الإسلام السياسي فيما عرف ب"الصحوة الإسلامية " حيث سيطرت هذه الحركات على المشهد الشعبي بعد سياسة الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي استعان بالإسلام السياسي في صراعه مع خصومه على السلطة واغتيل على ايديهم لاحقاً [3]، وحصول التغيير في إيران الذي أوقع النظام تحت سيطرة الملالي وذهبوا به باتجاه تأسيس دولة ولاية الفقيه .
جاهرت حركات الإسلام السياسي بالخطاب السياسي المعادي للفكر القومي عامة وبلغت المغالاة في عدائها للعروبة [4] حد مساواتها بالصهيونية ، واتجه الهم الأساسي لهذه الحركات الى العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية، وطرح سياسات قطرية أو إقليمية تابعة فكرياً وسياسياً لمشاريع تتعدى فكرة العروبة ، وتنادي "بالأمة الإسلامية" التي تعني أن رابطة الدين ، لا الرابطة القومية هي ما يربط ابناء الأمة ، والدولة لكي تكون تجسيدا لهذه الرابطة لا بد لها من تطبيق الشريعة الإسلامية .
إن هذه الاتجاهات التي سادت على مدى أكثر من ثلاثين عاماً عززت القطرية والنزعات التابعة للدول الإقليمية على المستوى السياسي ، وعززت الاتجاهات المضادة للعقلانية والتنوير ،والحقوق السياسية والاجتماعية المستندة الى القوانين الوضعية، فباتت مرجعية النصوص وكتب التراث هي الحاكمة للفضاء الفكري والسياسي . وكان المآل الحتمي لذلك انهيار الدولة الوطنية التي ما عادت محمية بالتوجهات القومية ، وتمزق النسيج الاجتماعي الذي عادت كل شياطين الصراع المذهبي للتحكم به من جديد؛ لذلك يغدو رفع الصوت بالدعوة الى العروبة والوحدة العربية مسألة وجودية بالنسبة لكل العرب من المحيط الى الخليج .ولا شك بأن العروبيين ، وفي طليعتهم البعثيون هم أول المعنيين بهذا النضال .
لقد أعطى البعث للوحدة أرجحية خاصة على أهدافه الأخرى، والسبب في ذلك كما يؤكد التقرير السياسي للمؤتمر القومي الثاني عشر الذي انعقد في بغداد عام 1992 هو " أن تحقيق الوحدة أمر يتعلق بكيان الأمة العربية ، وليس بقضية النظام السياسي أو الاقتصادي الذي تريد تحقيقه فحسب . وبعبارة أخرى إن تحقيق الوحدة أمر يتعلق بالوجود ، والوجود لا بد أن تكون له أرجحية على ما عداه ."[5] ، رغم أن أهداف الحزب في الحرية والاشتراكية تتساوى في أهميتها مع هدف الوحدة .
تطرح علاقة الدولة القطرية بالوحدة مسألة الوطنية من وجهة نظر قومية. إن الدولة القطرية هي كل واحدة من الدول العربية التي نالت استقلالها تباعاً بدءاً بمصر والسعودية في العشرينيات ، مروراً بالعراق في بداية الثلاثينات ، ولبنان وسوريا والأردن وليبيا في الأربعينات ، والسودان وتونس والمغرب في الخمسينات ، وصولاً الى باقي الدول العربية التي نالت استقلالها تباعاً من بداية الستينات حتى منتصف سبعينات القرن العشرين .
ارتسمت حدود الدولة القطرية، وبات الانتماء اليها والدفاع عن حدودها من أبرز مرتكزات الدعوة الوطنية. وقد تكرست الدولة في إطار الحدود التي رسمت لها من قبل الاستعمار، وعلى مدى عدة أجيال ترسخ الشعور الوطني بمعنى الانتماء للوطن الصغير ،ونشأت المؤسسات السياسية، والإدارية، والأمنية ،والصحية، والتعليمية، والمالية التي تدير المجتمع وتسعى الى تنميته بمختلف الميادين ، وصار الانتماء الوطني هدفاً للارتقاء بالمجتمع فوق العائلية ،والطائفية والدينية ،والعشائرية وغيرها من الموروثات التي تنتمي الى مرحلة ما قبل الدولة .
ولكن الانتماء الوطني الذي يحمي النسيج الاجتماعي ويوفر الأمن والسلام الاجتماعيين ،كمدخل للنهضة والتنمية الاجتماعية ،كان مهدداً باستمرار بفعل البنى الاجتماعية الهشة بسبب غلبة الروابط الاجتماعية التقليدية على الانتماء القائم على فكرة المواطنية من جهة ، والتهديد الخارجي المستمر للدولة القطرية التي لا تمتلك مقدرات المواجهة من جهة أخرى.
لا يمكن الارتقاء اجتماعياً من وضعية "الرعايا" الى وضعية "المواطن في دولة" إلا في إطار دولة مدنية قائمة على اساس الدستور والقوانين التي يشرعها مجلس تشريعي يمتلك كل مقومات الشرعية المستمدة من التمثيل الشعبي الواسع . ولا يمكن حماية المكتسبات الوطنية، وتحقيق النمو الاقتصادي إلا في إطار سياسة تكامل وحدوي للدولة القطرية مع المحيط العربي .هذه الحقيقة تستند الى مقتضيات المصلحة الوطنية من جهة ، وتنسجم مع الواقع التاريخي والثقافي والاجتماعي للمجتمع العربي الذي شاء الاستعمار أن يرسم له حدوداً مصطنعة على الرمال او في الجبال ،لا تشكل فواصل حقيقية على المستوى الاجتماعي ؛ فقد كان من الممكن أن تكون الموصل أو البقاع اللبناني جزءاً من الدولة السورية ، أو دير الزور جزءاً من الدولة العراقية ، أو يكون جزءاً من الساحل السوري في حدود الدولة اللبنانية ، أو تكون غزة جزءاً من مصر ، والاردن جزءاً من فلسطين أو العكس ، والأمر عينه يمكن قوله فيما يتعلق بمصر والسودان وليبيا ،أو تونس والجزائر والمغرب.
تكرست بعد الاستقلال حدود الدولة القطرية وبات الانتماء الى أمة واحدة يعبر عنه بأشكال من التكامل والتنسيق لا ترتقي الى طموح تجسد الأمة في دولة واحدة . وحين سقطت السلطنة العثمانية ،بفعل نتائج الحرب العالمية الأولى ، سارع العرب الى إعلان دولتهم التي امتدت من الحجاز الى بلاد الشام ، ولولا التدخل الاستعماري لنمت وتطورت ولأصبح للعرب دولتهم على غرار الأتراك والإيرانيين من قبلهم .ولكن مصالح الاستعمار السياسية والاقتصادية ، والقوى الداخلية المتعاونة معه التي عمل على تأهيلها لإدارة مؤسسات الدولة التي رسم حدودها بما يتفق مع هذه المصالح، كرست حدود الدولة القطرية بعد اقتطاع أجزاء منها وضمها الى الدول الإقليمية ( ايران وتركيا) ، وباتت هذه الحدود مقدسة في دساتير الدول الناشئة ومحمية بالاتفاقيات والشرائع الدولية . وشيئاً فشيئاً تحولت هذه الحدود في وجدان الاجيال، وبرامج التربية الوطنية والإعلام ، والأحزاب الى رموز "للكرامة الوطنية" ،وباتت حمايتها مقدسة سواء تعلق الأمر بمواجهة العدو الصهيوني او جار إقليمي أو قطر شقيق .
لقد باتت الدولة ،في حدودها القطرية ، واقعاً دستورياً وسياسياً واجتماعياً لا يمكن للأحزاب الوحدوية تجاوزه ، أو التغاضي عنه وعدم الاعتراف به . هذه الحقيقة انطلق منها التقرير السياسي للمؤتمر القومي الثاني عشر الذي اكد " أن مرور الزمن على وجود الدولة القطرية يؤدي الى خلق أوضاع ذاتية وموضوعية تدعم ذلك الوجود وتساعد على استمراره." .ورأى أن في هذه الدولة " عوامل قوة ، وفيها عوامل ضعف ، وعلينا ، نحن المعنيين بتحقيق الوحدة العربية ، أن ندرس هذه الظاهرة بعمق وتجرد . "
لقد تشكلت لهذه الدولة ،بمرور الزمن ،"عصبية من نوع ما ، وهذه العصبية تكونت بفعل الخصوصية والكيان المشترك ، وما يرتبط به من تعلق عاطفي اختلط مع النظرة الى المصالح . ولا يقتصر الأمر على هذا الشعور ، بل يتعداه الى " الوضع القانوني وأثره في تصرف الأفراد ومواقفهم " ، وعلى مستوى النظام السياسي بات من يتولى مسؤولية الحكم في الدولة القطرية محكوماً في ممارسته بالخيار الصعب بين المصلحة القطرية باعتبارها ملموسة ومباشرة ، والمصلحة القومية باعتبارها غير ملموسة وبعيدة من حيث اثارها الإيجابية على المصلحة القطرية . وحتى في الحالة التي يكون فيها الحكم ،في الدولة القطرية ، ذا ميول قومية ، فإن الأثر العملي للدولة القطرية يفرض نفسه لجهة أولوية الاهتمام به ؛ فالمسؤولية في الدولة القطرية تقتضي حماية الدولة والدفاع عن الاستقلال الوطني ، والقيام بكل ما يقتضي المحافظة على النظام في الحاضر لكي يكون هناك إمكانية لتحقيق الوحدة في المستقبل . يضاف الى ذلك عامل فني مؤثر أيضاً ، مرده الى "أن مشاكل القطر قد تكون على درجة كبيرة من التعقيد والإلحاح مما يتطلب جهوداً واهتماماً كبيرأً يستنفذ الجزء الأكبر من طاقة النظام ، وإمكانيته القيادية والإدارية في التخطيط والتنفيذ والمتابعة والعمل اليومي . " .
أدى الاهتمام بالمصلحة الوطنية ، بمرور الزمن ، الى تقوية الدولة القطرية ،فالمصلحة الوطنية تقتضي القيام بالواجبات الأساسية للدولة باعتبارها الراعية والمشرفة على إدارة المؤسسات :الأمنية ،والسياسية والاقتصادية ،والتربوية ، والثقافية، ويتوقف مستوى التنظيم الاجتماعي على درجة الأهلية والكفاءة التي تتصف بها إدارة هذه المؤسسات.
إن مهمات الدولة لا يمكن أن تنحصر في إقامة العدالة وحفظ الأمن الداخلي والدفاع عن سلامة وتنظيم العلاقات بالدول الأخرى فحسب، فقد بات عليها أن تهتم بشكل أساسي " بقضية التنمية والرفاه الاجتماعي " ومن أهم واجباتها تهيئة فرص العمل للجميع وتحقيق ارتفاع في مستوى معيشتهم ، وتأمين الضمانات الصحية والاجتماعية على اختلافها. لقد توسعت مهام الدولة الحديثة لتصبح "دولة رعاية اجتماعية" ينبغي أن تولي اهتاماً اساسياً بالأمور الحياتية للمواطنين من جهة ، وتعمل بشكل علمي ودؤوب على تحقيق التنمية من جهة أخرى . يضاف الى ذلك ضرورة توفير كل مستلزمات الدفاع الوطني التي تكفل سيادة الدولة وحماية ارضها وشعبها.
إن السعي لتحقيق هذه الأهداف والنجاح فيها يكرس حالة وطنية تؤسس لعصبية قوية تعطي للدولة القطرية قوة على البقاء ، وتضع الانتماء الوطني فوق كل انتماء آخر، وقد تذهب هذه العصبية الوطنية الى حد التأكيد على نهائية الدولة القطرية .
إن تحليل واقع الدولة القطرية ،باعتباره واقعاً ملموساً ومتجذراً لا يمكن تجاوزه ، يخدم الاتجاهات الوحدوية اذا استطاعت أن تبيّن للجماهير أن الأشكال المناسبة للتكامل والتوحد، بين الدول المتشابهة في اتجاهاتها الوطنية ، يحقق الأهداف الوطنية : السياسية ،والاقتصادية ،والأمنية ،والتربوية ،والاجتماعية بطريقة أكثر فاعلية وشمولية. ولا شك بان عمر الدولة الوطنية في مختلف الأقطار العربية بات يسمح بالحكم عليها ، فإذا كانت العصبية الوطنية قد اصبحت راسخة الى حد بعيد ، فإن النظام السياسي والتنمية الاقتصادية باعتبارهما مرتكزات أساسية لنهضة المجتمعات ظلا محكومين بالأزمات التي تهدد مستقبل الدولة الوطنية .
إن الأمن الوطني، وحماية الحدود ، وحماية حقوق الإنسان، والتنمية بمختلف ميادينها ،كل ذلك يشكل الأساس في الحكم على الدولة القطرية والأنظمة التي حكمتها. والتجربة تبين بعد عقود كافية من عمر الدولة القطرية قصورها أو فشلها ؛ فعلى المستوى الاقتصادي تبين عجز الدولة القطرية ، رغم استهلاكها لمواردها الطبيعية القابلة للنفاذ، عن الوصول بالاقتصاد الوطني الى درجة من التطور يصبح معها قادراً على الإنتاج وتوفير السوق لتصريف المنتجات، وذلك يشكل شرطاً لا غنى عنه للتنمية الاقتصادية. إن التنمية الاقتصادية التي تحقق نموأ في موارد الدولة ينعكس على دخل الفرد تحتاج الى الانفتاح والتكامل بين الدول العربية للاستفادة من الموارد الطبيعية والبشرية والسوق الواسع والقيام بمشاريع إنتاجية كبيرة لخدمة التنمية في ميداني الزراعة والتجارة ، وهو ما عجزت عنه الدولة القطرية حتى تلك التي يشكل النفط موردها الأساسي . وكذلك فإن الصعوبات التي واجهتها الدولة القطرية على مستوى الأمن بينت أنه حتى لو راكمت الدولة انجازات لشعبها فإنها ستكون معرضة للتلاشي والاندثار بفعل العدوان الخارجي ، الأميركي – الصهيوني القائم والمستمر بشكل دائم، والإقليمي المتمثل بالتدخل المباشر وغير المباشر حين يضعف الحضور القومي العربي ،فكما قال مؤسس البعث الأستاذ عفلق :إن الدول الإقليمية تصبح صديقة للعرب عندما يكون العرب أقوياء ،وتتحول الى دول عدوانية عندما يضعفون .والواقع الحالي للمشرق العربي يبين مدى النفوذ والتدخل السياسي والعسكري الإقليمي الذي يمارس فعله السلبي التدميري على كل ما أنجزه المجتمع والدولة في الأقطار العربية التي تتعرض في الان نفسه للعدوان والاحتلال الاميركي والصهيوني.
وفيما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان ، فإن الأنظمة الوطنية ،التي ينبغي أن تعمل على تحقيق الديمقراطية بمضمونها الاجتماعي والسياسي وصيانة حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، تجد نفسه أمام اصعب المهام لأنها تواجه أمراض المجتمع الداخلية الموروثة ،ومنها الأمية والقبلية والطائفية والعشائرية ،التي تتطلب نوعاً خاصاً من التنمية التي تتطلب برامج تربوية طويلة الأمد في مجتمع يسوده الأمن والاستقرار .وفي هذا الإطار يمكن للدولة ان تحقق انجازات تجعلها تقطع أشواطاً على طريق الانتقال بالمجتمع وتطوير مفاهيمه لتتلاءم مع مقتضيات المواطنة. ولكن ذلك ينبغي أن تظلله الحماية القومية حيث تشكل المظلة القومية حماية للإنجازات الوطنية وتعصمها من الانحدار مجدداً نحو هاوية القبلية والطائفية والمذهبية التي ينخر سوسها جسد امراض المجتمعات العربية من جهة ،ويشكل اداة مناسبة لتدمير المجتمعات العربية من خلال الرعاية الإقليمية والدولية للحركات السياسية المعادية للفكر الوطني والقومي من جهة أخرى.
عند توقيع اتفاق الطائف عام 1990 لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية بكل تعقيداتها الوطنية والقومية والإقليمية والدولية كانت الصيغة المناسبة لحل اشكالية الهوية الوطنية هي الاتفاق على مبدأين تم اثباتهما في مقدمة الدستور الجديد؛ الأول ينص على أن "لبنان وطن حر سيد مستقل ، وطن نهائي لجميع ابنائه … ، والثاني ينص على أن " لبنان عربي الهوية والانتماء … وفي ذلك سعي لحل إشكالية العلاقة بين الوطني والقومي .وإذا كان شعار اللبننة ،سابقاً ، عنوانا لتفجر المجتمع داخلياً وطرح اشكالية هويته، فإن الانطلاق من حقيقة الهوية الوطنية مع التأكيد على فكرة عروبة الهوية والانتماء هي الممر الإلزامي الوحيد لصيانة الهوية الوطنية وحمايتها ؛ فالوطنية والعروبة هما من الطبيعة عينها ، ولا حماية للمجتمع والحدود على المستوى الوطني ألا بسياسة قومية عمادها العروبة الديمقراطية التقدمية.