بقلم : اسماعيل ابو البندورة
استدعى الانفجار العربي الكبير الذي حصل في أكثر من قطر عربي في السنوات الثلاث الأخيرة، ولايزال يستدعي ويتطلب قراءات وتحليلات ومقاربات من نمط معرفي مختلف، وذلك من أجل الوصول الى معارف تأسيسية حقيقية حوله يمكن البناء عليها وتحويلها الى وعي قومي جمعي، وتقصي وادراك واستكناه ما تفاعل فيه من عوامل وعناصر ومؤشرات وأحداث وتفاعلات، وما استجد فيه من اشكاليات واختلاطات والتباسات، هي ما شكلته وأعطته عناوينه المختلفة وأبقته أفقا مفتوحا للتفكير والتأمل والاستشراف والمراجعة المستمرة واليقظة، وهي ما افرزت مخرجاته السلبية والايجابية وجعلت منه مادة خصبة للبحث والدراسة والتأمل .
بدأت الاشكالية المفهومية التحليلية في تعريف هذا الانفجار والاتفاق على معانيه ومداليله ( ثورة، انتفاضة، تمرد، حركة احتجاج، مؤامرة الى آخر ما هنالك من تسميات وعناوين )، واختلطت الرؤى حوله واستشكلت، جراء الفكرالتحليلي اليومي القاصر الذي يسارع الى التوصيف الخاطف والتقرير العشوائي، ويتعجل في اصدار الأحكام، وكانت تلك من صفات الفكر الذي ساد في الآونة الأخيره في مجالات الفكر والتحليل السياسي العربي والمتمثل في التسرع في التشخيص والخفّة في اصدار الاحكام دون الغوص في صميم الظواهر وطرق تشكلّها ومحددات تطورها واشتغالها، واتخاذها صيغها النهائية، ودليلنا على ذلك ماكان يصدر عن الكثير من الندوات والمؤتمرات العربية من قراءات سطحية وافتراضات قاصرة، أو منساقة وراء التحليلات الاستشراقية الغربية البرانيّه التي أصبح الوطن العربي وقضاياه ميدانا لها ومختبرا أحيانا لهلوساتها الفكرية .
وتمثلت النقيصة الثانية في هذا النمط من التحليلات القاصرة في غياب القدرة الاستشرافية والاستنهاضية عند قراءة واقع الشعوب والمجتمعات في لحظات الخمود والاستعصاء والانسداد، واستثناء والغاء فكرة ودور الشعب والجماهير والقوى الاجتماعية المعبّرة عنها (- باعتبارها ' أي الجماهير' ذاتا تاريخية يمكن أن تتدخل وتصنع تاريخها ذاتيا – وليست موضوعا ساكنا للقراءة والنظر المجرد والنمطي) من حسابات التحليل، ولذلك فقد أثّرت مفاجأة الانفجار العربي في تقويض هذه الفكره التبخيسية وجعلتها من أفكار الماضي الباهتة، واليقينات والبداهات المتهافتة، ووضعت هذا الفكر أمام مشهد عربي انفجاري مختلف ومضطرب، أصبح يحتاج الى مناهج جديدة في التحليل، وقراءة تاريخية – سياسية بأثر رجعي لكل ماجرى واعتمل في الوطن العربي ، وأثّرّ على طبيعة رد الفعل الشعبي على الأقل في العقود الأربعة الأخيرة .
لقد كان أقصى ما تطلعت اليه التحليلات ودعاتها، وما طمحت اليه في رصدها وتحليلاتها وافتراضاتها، هو احداث اصلاح عربي طوعي أو ارغامي يطال بعض المؤسسات والبنى، ويفسح المجال لبعض الحريات المحدودة، ويخرج الوطن العربي من تحت الصفر الى الصفر، ولم يكن في الوارد الانقلاب الجذري الراديكالي، ولا تقويض الأنظمة الحاكمة، وانما محاولة التصالح السياسي والاجتماعي في الداخل والخارج حتى وان جرى ذلك بصيغ توفيقية أو تلفيقية، وكان بعض ذلك أو معظمه بايحاءات أمريكية براجماتية من أجل ابعاد شبح التطرف والارهاب الموهوم عنهم وتجفيف منابعه التي اصبحت تطال عرين 'دكتاتورالعالم' في وكره، بعد أحداث سبتمبر/ايلول ، وكان ذلك من الاوهام والهذاءات السياسية الكبرى التي حاقت واستبدّت بأمريكا في الآونة الأخيرة .
وانسياقا مع هذا الوهم الأمريكي – منبعا وفبركة وصياغة ، بدأ الحديث عن الاصلاح الالتباسي أو الوسواسي في الوطن العربي وبدأت التحليلات تتحدث عنه وتشيعه في أكثر من مناسبة، لأنه كان البديل الممكن والمفترض عن الاحتقان والثورة والخسران الكامل للأنظمة الاستبدادية، ولذا فان الانفجار العربي جاء معبرا عن رفض للاطروحة الامريكية المتهافتة حول الاصلاح الشكلاني الترقيعي الاستباقي من جهة، ورفضا للاستبداد الذي لم يكن ليصدق احد امكانية تحوله الى ديموقراطية أو استبداد عادل عن طريق الترقيع والاصلاح التدريجي من الجهة الأخرى .
أمامنا الآن سيرة سياسية – تاريخية – اجتماعية – دولية لهذا الانفجار العربي انبثقت وتفاعلت وامتدت لثلاثة أعوام جارحة وعاصفة، وفيه مؤشرات سياسية واجتماعية سلبية وايجابية، تحتاج لمعاينة دقيقة، ولن تسعف الآن التحليلات والنظرات الايديولوجية الكليّة في استكناه معانيه ودلالاته، بقدر ما تجدي القراءات القومية المتأنية، والتحليلات العميقة والميدانية لكل مايجري في أقطار الوطن العربي المتحولة والسائرة نحو مستقبلات دراماتيكية جديدة، لكي يستخرج منها عناوين جديدة للتطور العربي واعضالاته واشكالياته، وتحويل ذلك الى فضاءات للتفكير العقلاني الخصب والحافز بديلا عن التفكير اليومي العصبوي في بعض تعبيراته ومفرداته ومظاهره .
وآن الأوان لهذا العقل العربي الذي يدور الآن في متاهات وتجاذبات ايديولوجية زائفة في معظم حالاتها وتعبيراتها، أن يستريح ويقرأ الظاهرة ' الانفجار العربي ومعطياته، ومخرجاته ' وفقا لمعطيات علمية ومؤشرات ومعاينات واقعية، وأن لا يبقى أسير التحليلات العاجلة والواهية والمؤدلجة، وأن يختطّ من كل ذلك طريقا واعدا نحو المستقبل يخرجه من الظلمات الى النور، ويؤسس لمرحلة جديدة في التفكير والتدبير