عوني القلمجي
مضى على الانتفاضة العراقية اكثر من خمسة شهور، دون تحقيق هدف واحد من اهدافها المتواضعة. وما اتخذه نوري المالكي من اجراءات، من قبيل اطلاق سراح بعض السجناء الابرياء، ليس سوى ذر الرماد في العيون، وتمهيدا لانهاء الانتفاضة بالقوة العسكرية. وهذا ما حدث فعلا، وكان اشدها بشاعة ووحشية ما حدث في مدينة الحويجة.
ارتكاب هذه الجرائم، والتهديد بتكرارها ضد اية مدينة يرفض اهلها ترك ساحات الاعتصام والعودة الى بيوتهم واعمالهم، حسب تعبير المالكي، امر لا يدعو للاستغراب. فهذه الحكومة، مثل سابقاتها، لم يأت بها الاحتلال لخدمة العراق واهله، وانما جاءت لتدميره دولة ومجتمع. لكن ما يدعو للاستغراب هو تمسك القائمين على الانتفاضة بسلميتها الى النهاية، وكأن ما حدث في الحويجة وغيرها من المدن من جرائم كانت مجرد تصرفات عابره، أو كان الغرض منها، كما قال احدهم، "استعراض لمظاهر القوة لاجبار المنتفضين على تخفيض سقف مطالبهم"!!. ولا يغير من هذه الحقيقة اطلاق التصريحات والدعوات لحمل السلاح، وتشكيل الجيوش واطلاق الاسماء عليها، فهذه سرعان ما يجري التخلي عنها مقروناً بتبريرات ما انزل الله بها من سلطان.
وكان اكثر ما يحزن في هذا الصدد، موقف غالبية القوى الوطنية وفصائل المقاومة المسلحة المؤيدة للانتفاضة، حيث لم تكتف هذه القوى بالثناء على هذا النهج السلمي الى الابد، وانما سوَّقت له واسندته بحجج واهية. فمنها من قال بأن الانتفاضة لم يشتد ساعدها ويتصلب عودها، واشترطت لتغيير مسارها إلتحاق المدن الجنوبية بها، واخرى تحدثت عن الظروف الذاتية والموضوعية التي لم تنضج بعد، وثالثة فسرته بافتقار اولي الامر منها للخبرة والحنكة السياسية، ورابعة شكت من الدعم العربي مقابل الدعم الامريكي والايراني للحكومة، اما تلك التي اعتبرت حمل السلاح للدفاع عن النفس بأنه يخدم المالكي وحكومته، وذلك بان يتخذ منه ذريعة لاستخدام القوة العسكرية بحرية تامة، فهذه تدعو الى السخرية والاستهجان.
هذه المواقف لهذه القوى لا تنم، كما نعتقد، عن سذاجة سياسية او عدم إدراك للاسباب الحقيقة التي تكمن وراء ذلك، وانما أرادت منها التهرب من مسؤولية تحمل اعباء معالجتها، وتجنب الصدام مع بعض قادة الانتفاضة تحسبا من تاثيرهم الديني والعشائري، او في احسن الاحوال تجنبا لاحداث شرخ في صفوف الانتفاضة، حسب ادعاءها. ولكي لا نطيل اكثر، ويفسر كلامنا على انه اتهامات كيدية، سنذكر لكم واحدة من هذه الاسباب التي تغنينا عن ذكر غيرها. ونقصد به الشلة المتحكمة بقرارات الانتفاضة، حيث لازال اركانها جزءاً من الحكومة ويرتعون في مستنقعها ومستنقع عمليتها السياسية. علي حاتم السليمان ورافع العيساوي واحمد العلواني نموذجا.
هؤلاء لم يركبوا هذه الموجة الا بعد شعورهم بالخطر جراء توجه المالكي، لاسباب معروفة، باستبعادهم من العملية السياسية، أو اعتقالهم وفق المادة اربعة ارهاب كما فعل مع طارق الهاشمي. وبالتالي فان اي صدام مع الحكومة سينهي املهم في العودة الى المنطقة الخضراء، والتمتع بما تحويها من كنوز الدنيا. بعبارة اخرى، فان هذه الشلة ارادت توظيف هذه الانتفاضة لاجبار المالكي على التراجع عن توجهاته الاقصائية واستعادة فردوسهم المفقود، واذا ما تحقق لهم ذلك، فانهم لن يحتاجوا الى وقت طويل لترك ساحات الاعتصام والعودة الى احضان المالكي الدافئة سوى مسافة السكة على حد تعبير المصريين. وهذا ما يفسر لجوء هؤلاء الى اقناع المنتفضين باقامة اقليم سني من اجل التعويض عن مكاسب المنطقة الخضراء، كخطوة استباقية اذا ما اصر المالكي على استبعادهم. والا بماذا تفسر لنا هذه الشلة الاقدام على هذا الفعل المشين؟، هل كان من بين مطالب الانتفاضة اقامة مثل هذا الاقليم، وهي التي رفعت شعار "لا للاقليم ولا للتقسيم"؟، ألم يصدر العالم والشيخ الجليل عبدالملك السعدي، الذي اختارته الانتفاضة مرجعا لها، فتوى شرعية بتحريم الدعوة الى تشكيل مثل هذا الاقليم، كونه يخدم مخطط تقسيم العراق الى دويلات ثلاث او اكثر.؟
بالمقابل، فإن القوى الاخرى التي تدرك هذه الاسباب لم تحرك ساكنا، واكتفت باصدار بيانات التاييد للانتفاضة، او تقديم النصح والمشورة لها، او التعهد بحمايتها عسكريا، ومن دون لف او دوران، كان ينبغي على هذه القوى الدعوة الى قيام انتفاضة داخلية، وعلى وجه السرعة، لتطهير الانتفاضة الام من المتاجرين بها، بصرف النظر عن مكانتهم الاجتماعية والعشائرية والدينية، وعدم السماح لها باستغلال معاناة الناس لتحقيق مأربهم الخبيثة،
لا نختلف حول تاثير هذه الشلة على الناس، لكن مثل هذا التاثير سيكون محدودا اذا ما اتخذت هذه القوى خطوة اخرى ورمت بثقلها في الميدان، اما موحدة او في ظل قيادة مشتركة تضم اليها قادة الانتفاضة الوطنيين. ولرفع اي التباس، فاننا لا نعني من وراء انجاز هذه الخطوات اجبار الحكومة على تحقيق المطالب المتواضعة للانتفاضة، وانما نعني بذلك احداث نقلة نوعية في مسيرتها، والارتقاء بها الى ثورة شعبية، يكون شعارها الرئيسي اسقاط الحكومة وعمليتها السياسية المفبركة ودستورها الملغوم وبرلمانها المزور، والاتيان بحكومة وطنية من الشعب وتعمل من اجله، ليتسنى لها انهاء بقايا الاحتلال وتصفية النفوذ الايراني الفارسي من كل شبر من ارض العراق.
ليس هذا فحسب، فادارة انتفاضة من هذا الوزن هي بمثابة ادارة للمعارك الوطنية الكبرى. وبالتالي ليس من الحكمة اعتماد وسيلة نضالية واحدة دون الاخرى، وانما اعتماد جميع الوسائل لتامين نجاح الانتفاضة، وفي مقدمة هذه الوسائل وضع الفعل المسلح موضع التنفيذ. ويخطيء من يظن بان الانتفاضة ستنتهي بسلام، ومن دون خوض معارك حامية الوسيط في كل مكان. فهذه هي النتيجة الحتمية فيما يخص الانتفاضات الكبرى، التي تضع الشعوب امام نقلة تاريخية تصب لصالحها. وبالتالي فان تشكيل جيش الانتفاضة من قبل جميع الفصائل المسلحة يصبح امرا لا غنى عنه، خاصة وان الحكومة قد اختارت طريق استخدام القوة العسكرية لانهاء الانتفاضة، حتى اذا استمرت بسلميتها والتزمت بما منح لها "الدستور" و"النظام الديمقراطي" من حق التظاهر والاعتصام. ومعلوم بان اللجوء الى الفعل المسلح، او بعبارة ادق الى الكفاح الشعبي المسلح ضد مثل هذه الحكومات ليس ابتكارا عراقيا، وانما لجات اليه جميع شعوب العالم لانتزاع حقوقها. ومن دون ذلك فان الاصرار على سلمية الانتفاضة مهما حدث سيحولها، في نهاية المطاف، الى مجرد تظاهرات سرعان ما تخف حدتها وتنتهي مع مرور الوقت. وهذه حقيقة من الصعب انكارها او تجاهلها او الاستهانة بها.
دعونا نسترسل اكثر فالسلاح وحده لا يكفي، اذا لم يعزز بالفعل السياسي، لما له من دور هام وفعال في اي معركة وطنية، سواء كانت سلمية او مسلحة.، وهذا الفعل الذي نعنيه هنا، او نامل بتحقيقه، ليس صورة محسنة، من تلك التي الفناها من قبل، والمتعلقة بالنشاط السياسي ضد الحكومة لجهة فضحها وتعريتها، وانما نعني به اكثر من ذلك بكثير. خصوصا وان نشاطات وفعاليات من هذا النوع فقدت من قيمتها كثيرا جراء قيام الحكومه بهذه المهمة، فهي قد فضحت وعرت نفسها بنفسها،
هذا الفعل السياسي الذي نسعى اليه، هو الذي تنحصر نشاطاته بالدرجة الاولى في اتجاه تعبئة الناس وتهيئتها من اجل خوض معركة من هذا النوع، وفي نفس الوقت، يؤمن لهذه المعركة التاييد الشعبي الشامل لها، ويوحد خطابها ويوضح اهدافها ويؤكد مشروعيتها، ويدحض بالمقابل محاولات اعدائها للنيل منها. بمعنى اخر، فما كان ملائما من فعل سياسي في مرحلة سابقة من الصراع لا يكفي بالنسبة لهذه المرحلة. فالمعارك الوطنية من هذا الوزن لا تعتمد منهج واسلوب ثابت، وانما يقتضي التغيير وفق متطلبات تطور الصراع في مرحلة من مراحله، والانتفاضة اليوم تعد واحدة من هذه المراحل او هكذا نامل . بل ان الفعل السياسي يعادل على الدوام الفعل المسلح، ويعلوا عليه احيانا، كونه يشمل مساحة اوسع في المجتمع وله قدرة اكبر على تعبئة مكوناته واطيافه، في حين ينحصر الفعل المسلح في نخبة من المجتمع، حباها الله بالقدرة على حمل السلاح والتصدى لعدوها بشرف وشجاعة.
ولكن هذا ليس كل شيء، فالفعل السياسي بهذه السعة لن يؤدي اغراضه دون قيام الجبهة الوطنية الشاملة، فهي القادرة على تعبئة المجتمع للدخول في رحاب الانتفاضة، وتامين المستلزمات الضرورية لها، من مال وسلاح ودماء جديدة، لتتمكن من الاستمرار حتى تحقيق اهدافها، كون الجبهة الشاملة تضم جميع قوميات الشعب العراقي وطبقاته الاجتماعية وفئاته واطيافه، ناهيك عن قدرتها على كسب الدعم والتأييد من قبل شعوب العالم الحرة.
ازعم هنا بان هذه الفصائل والاحزاب والقوى المناهضة للاحتلال قادرة على القيام بمثل هذا العمل النبيل، كونها تحظى باحترام وتقدير عموم الشعب العراقي، جراء ما قدمته من تضحية وفداء من اجل تحرير العراق واستعادة استقلاله ووحدته وسيادته الوطنية كاملة غير منقوصة، وقادرة ايضا على توسيع حجم الانتفاضة وتعزيز مواقفها الثورية. وتزيد من امكاناتها لاستعادة زمام المبادرة، وفرض السيطرة على المدن وادارتها، على انها مدن محررة. خاصة وان الحكومة وعمليتها السياسية المفبركة تعيش اضعف حالتها.
لا نجادل في العقبات التي تحول دون تحقيق هذه المهمات، وخاصة وحدة فصائل المقاومة، او تشكيل قيادة ميدانية مشتركة، لكن تذليلها ليس بالامر الصعب، اذا ما غلبت هذه القوى مصلحة الوطن على مصالحها الخاصة، وقدمت التنازلات المتبادلة فيما بينها، بدل ان تقدمها لهذه الجهة او تلك من اجل تحقيق مكاسب فئوية او ضيقة، واي تلكؤ بهذا الخصوص سيفوت علينا، كما يقول المعنيون بحروب التحرير، وما تعلمناه من تجارب الشعوب، استغلال هذه الفرصة الثمينة، او كما يصفوها باللحظة التاريخية، فالتاريخ ليس كريما دائما في منح مثل هذه الفرص، ولا الشعوب قادرة على القيام بمثل هذه الانتفاضة في اي وقت تشاء. ناهيك عن ان العراقيين عموما لن يغفروا او يسامحوا اي تقصير في هذا الخصوص، ولا يقبلوا باي اعذار او مبررات ، سواء كانت مشروعة او غير مشروعة، بعد ان قدموا كل ما لديهم وضحوا بكل ما عندهم ولم يعد بامكانهم تقديم اكثر من ذلك.
ليس امامنا من خيار سوى وضع هذه المهمات امانة بيد اصحابها، ونطالبهم بانجازها، اليوم قبل غدا، فهي الطريق الوحيد لتحقيق حلم العراقيين بخلاصهم من المحنة التي استمرت طويلا وعانوا بما لم تعاني منها جميع الشعوب التي تعرضت للاحتلال، أو ظلم وجور حكوماته العميلة. وبخلاف ذلك فان اي فشل في هذا الخصوص، يعني فشل الانتفاضة، والذي سيولد بدوره احباطا بين الناس ويشيع في نفوسهم روح الياس والخنوع ومن ثم القبول بالامر الواقع. ومن يحاول انكار هذه الحقيقة فهو اشبه بمن يغطي الشمس بالغربال كما يقال.
ترى هل يعد الوفاء بهذا الاستحقاق كثيرا على الشعب العراقي.؟
السؤال موجه اليكم ايها القادة.