كانت ثمرة طيبة أولى ثمرات الثورات العربية في قطافها التونسي، لمناسبة انتخابات المجلس التأسيسي. ما خيّبت أملاً ولا علّقت رجاء على المجهول ، ترجمت حلم التغيير الديمقراطي إلى واقعةٍ ابتدائية واعدة، بعد مخاض من الصراع والتدافع عسير، بعد لحظات خشينا فيها على ثورة الياسمين أن تصطدم بتناقضات قواها وضغط قوى الثورة المضادة. انتصرت الثورة على معضلاتها الموضوعية وشقّت طريقها نحو الكينونة المؤسسيّة بسلاسة تدل على تحضّر المجتمع الذي أنجبها، والقوى الحية التي حَدَبت عليها وذَبت في الظروف الحوالك من مسيرتها في الشهور التسعة المنصرمة.
شهور تسعة من الحَمْل الطبيعي نتجت منه ولادة سليمة لأول جنين ديمقراطي في حياة الثورة: المجلس التأسيسي. الابن البكر للثورة هو مَنْ عليه أن يرث سرّها، ويتعهّده بالصيانة، ويحمل أمانته في ما سُيْسَتْقَبُل من الأيام والمواعيد. كل شيء يتوقف على النمو الطبيعي لهذا الجنين، على الشروط التي سينمو فيها. كلما استقامت استقام وأدى على النحو الأمثل وظيفته. وأحسنُ وجوه استقامة المجلس أن تتحلى قواه بروحية التعاون والتفاهم والوحدة لتتخطّى امتحان المنازعة على التخطيط للمستقبل. لقد نجحت تونس في تنظيم أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ الوطن العربي، من دون أن تُقصي أحداً من أبنائها وعائلاتها الفكرية والسياسية. والحري بالمجلس، الذي عليه يُعَولُ في بناء المداميك والأساسات، أن يتشبع في عمله بالقيم عينها التي أنتجت هذه الحالة الانتخابية الفريدة. والأمل عظيم في حكمة وتسامح ووحدوية القوى النافذة فيه.
قد يكون ثمّة ما فاجأ الكثيرين منّا في هذه الانتخابات، ومن ذلك كبوة “الحزب الديمقراطي التقدمي” غير المتوقعة بأي مقياس، وهو الذي كاد يرمز للمعارضة في حقبة الديكتاتورية، ومنها التصويت غير المتوقع ﻠ“العريضة الشعبية”، لكن الذي لم يكن مفاجئاً لأحد هو الحصة الانتخابية التي حصلت عليها “حركة النهضة”، وكادت تشبه حصص “حزب العدالة والتنمية” في الانتخابات التركية، ونسبة المشاركة الشعبية في الاقتراع، وهي غير مسبوقة في انتخابات في تاريخ البلاد العربية. والواقعتان جديرتان بقراءة – ولو سريعة- تسلّط الضوء عليهما: مقدمات ومساراً، ونتائج، لبيان أسبابهما، ورفع موجبات الشعور بالمفاجأة منهما.
ليست “حركة النهضة” حالة انتخابية نجمت من فراغ سياسي في التمثيل. إنها حزب عريق يعود، في صيغته التنظيمية والسياسية المتجدّدة، إلى ما قبل سبعة وعشرين عاماً، وتعود نشأته الأولى إلى ما يزيد على أربعين عاماً، حين عمل تحت عنوان “حركة الاتجاه الإسلامي”. ولقد أقامت، على امتداد كل تلك الحقبة، جهازاً حزبياً محكم التنظيم، وواسع الانتشار، ساعد على تمتين وحدته الداخلية ظروف السرية التي عاشت فيها الحركة لأكثر من ثلاثين عاماً، والطابع الحزبي العقائدي لها، ومرونتها السياسية التي سمحت لها بالتكيف مع المنعطفات، ومع الحملات الأمنية القاسية، خاصة في سنوات التسعينات من القرن الماضي. وقد يكون “الإسلام الحزبي” والنضالي في تونس أرقى أنواع “الإسلام الحزبي” في الوطن العربي، وأكثره انفتاحاً وتشبّعاً بالقيم الديمقراطية والحداثية. ويعود الفضل في ذلك إلى نخبة متنوّرة من النهضويين يقف على رأسهم مؤسس الحركة ومنظّرها الشيخ راشد الغنوشي الذي سبق إسلاميي تركيا إلى المراجعة الفكرية وإلى تأصيل الفكرة الديمقراطية والمصالحة مع الحداثة، حتى إنه بات مرجعاً تقرأ كتبه ودراساته على أوسع نطاق داخل “حزب العدالة والتنمية” التركي. ويكفي المرء أن يقرأ أطروحته للدكتوراه التي أنجزها في بداية الثمانينات ونشرها في مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان “الحريات العامة في الدولة الإسلامية”، حتى يقف على جرأته الفكرية في الاجتهاد، وهندسته السياسية للنظام المدني الحديث.
وإلى ذلك فإن “حركة النهضة” تحمّلت أعظم القسط من مظالم العهد البورقيبي المتأخر وعهد بن علي، وواجهتها بشجاعة وثبات، على باهظ كُلفة ذلك على حرية الآلاف من مناضليها الذين اعتقلوا أو شُرّدوا في المنافي. ولم يكن التصويت لها مجرد مكافأة شعبية على مقاومتها البطولية للعهد الديكتاتوري فحسب، وإنما اقتناع ببرنامجها السياسي والاجتماعي من قبل قطاعات عريضة من المجتمع، وبأنه برنامج يملك أن يعيد إلى تونس الكثير من التوازن في الشخصية الذي فقدته في العهد البائد. ولسنا نتزيّد، هنا، حين نقول إن التصويت بهذه الكثافة لمصلحة “حركة النهضة” في انتخابات المجلس التأسيسي هو أضخم إدانة شعبية للعهد الديكتاتوري البائد الذي بنى شرعيته عند الفرنسيين والأوروبيين، على تصفية الحركة الإسلامية واستئصالها أمنيّاً، وإيهام حلفائه الخارجيين ﺒ“تحرير” تونس من الإسلام والعروبة وكلّ ما يشدّها إلى محيطها الثقافي والحضاري، وبإمكانية “تحرير” غيرها من البلاد العربية والإسلامية من الروابط عينها.
ويبقى أن نسبة المشاركة العالية، بل الاستثنائية، في الاقتراع تُفْصح عن أم الحقائق السياسية في تونس: تَخلص المواطنين من الاستبداد وشعورهم بالحرية والكرامة والمواطنة غير المنقوصة، والرغبة العارمة في ممارسة حق حُرموا منه طوال عهد الطاغية البغيض، فضلاً عمّا أطلقته الثورة العظيمة على النظام الديكتاتوري من تعطش للحرية ومن رغبة في بناء الدولة والمصير. وبقدر ما انتقم قُرابة نصف الشعب الناخب من بن علي بالتصويت لغريمه وخصمه التاريخ راشد الغنوشي – وفي ذلك قتل سياسي ثان لبن علي- كذلك انتقم الشعب كله من عهد الاستعمار الداخلي فتحررّ ومارس فعل التحررّ (تقرير المصير) عبر صناديق الاقتراع بكثافة لم تعرفها الديمقراطيات الغربية نفسها. لقد اجتمعت الحالة النفسية الجماعية لشعب حرم – لربع قرن- من حقه في السياسة مع وعي حاد لدى قطاعات عريضة من المجتمع التونسي في إنتاج هذا المشهد الاستثنائي من المشاركة العارمة في الاقتراع لانتخاب المجلس التأسيسي والحكومة القادمة.
وغنيّ عن البيان أن لنسبة المشاركة العالية دلالة سياسية لا يخطئ قراءتها لبيب، هي أن الشعب التونسي استوعب درس الديكتاتورية، وما جرته عليه حقبتها الظلماء من مآسٍ، وخرج ليقرر مصيره بنفسه وليقطع الطريق على من يبتغي مصادرة قراره وحريته. لقد أدرك المواطن التونسي قيمة صوته، والمكانة التي يحتلها هذا الصوت في المجال السياسي. إنه الرقم الملكي في معادلة السلطة والمستقبل، وحزام الأمان الوحيد لحماية الثورة من السرقة أو التبديد. مَنْ تخلف عن التصويت، تخلى طواعية عن حق مقدس في تقرير مصيره، وترك لغيره أن يقرر له مصيره نيابة عن نفسه: وفي هذه النيابة يتجدّد الديكتاتور وشعب تونس يأبى إلا أن ينهي من حياته سيرة الديكتاتورية.
التجديد العربي