قبل سنة أو أكثر كان مجرد الحديث عن المقاومة العراقية وقوتها وقدراتها، واحتمال انهيار الاحتلال تحت ضرباتها، كان هذا في رأي بعض المراقبين يدخل في باب خداع النفس، أو يعد نوعا من الوهم أو الأمنيات التي لا صلة لها بالواقع على الأرض. ولكن اليوم تبدو الصورة أكثر وضوحا، وأصبح كل من يمتلك ذرة من الموضوعية والإنصاف، قادرا على معرفة وإدارك حقيقة موقف الغزاة المحتلين وعملائهم، الذي صار أكثر تعقيدا وضعفا، وإن ضربات المقاومة العراقية قد أصبحت أكثر رهبة للمحتل وأكثر دقة وانتشارا، وصار التفاف الناس وتعاطفهم مع هذه المقاومة في تصاعد مستمر، واليوم هناك العديد من المدن والمناطق العراقية ساقطة بأيدي المقاومة وبعضها الآخر ساقطة من الناحية العسكرية. أي أن المقاومة هي من تمتلك زمام المبادرة في هذه المناطق وبعضها يدخل في نطاق العاصمة بغداد. في ظل هذه الأوضاع العسكرية والأمنية والسياسية التي يواجهها المحتل الأمريكي وعملاؤه يستطيع أي مراقب أن يستوعب مغزى تلك المقولة التي أطلقها الرئيس صدام حسين في بداية الاحتلال، وهي أن الامريكان سوف ينتحرون على أسوار بغداد. وقد باتت اليوم في ظل تفاقم مأزق الاحتلال – باتت حقيقة واقعة يتجرع فيها الغزاة المجرمون كؤوس الموت، الذي عاش في بغداد ويعرف طبيعتها وجغرافيتها والمدن التي تحيط بالعاصمة بغداد سوف يجد أن مدن مثل التاجي، أبوغريب، الفلوجة، سلمان باك، الصويرة، الراشدية، بعقوبة والطارمية التي تشهد معارك متواصلة يدفع فيها المحتل الأمريكي أثمانا باهظة من قتلى وجرحى جنوده ومرتزقته، إضافة إلى خسائره الكبيرة في أسلحته المتطورة. هذه المدن هي التي تمثل في الواقع سور بغداد التي لا يجرؤ المحتل وأذنابه على الاقتراب منها أو التحرك في حدودها. هذه هي الوقائع على الأرض التي يحاول الإعلام المشبوه التابع تجاهلها أو طمسها من خلال تزيين الباطل الامريكي وتسويق أكاذيبه وتبرير جرائمه، وللأسف هناك من لايزال واقعا تحت سطوة هذه الاعلام التحريفي جاهلا أو واعيا. ومنذ بدايات العدوان والاحتلال قلنا مرارا وكتبنا مرات عديدة وعبر هذه الصفحات، ومع الساعات الأولى لانطلاق المقاومة العراقية، قلنا إن هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية وانتصار المقاومة هي مسألة وقت، وأن هذه الهزيمة هي قادمة وواقعة لا محالة. وفي مقابل ما كنا نؤمن به ونقوله، كنا نرى ونسمع شنشنات بعض المخدوعين والمهزومين نفسيا ماكنا نقرأ تهكمات بعض المخادعين وغمزات بعض الطائفيين والمتأمركين التي كانت جميعها تحاول الاستخفاف أو السخرية مما كنا نقوله ونتوقع حدوثه، لأننا كنا نؤمن به ونبصره عقلا ووجدانا وضميرا، وهو ما جعلنا على يقين من قدرة المقاومة على إنجاز هدف التحرير وإفشال المخطط الامريكي في العراق والمنطقة، على عكس تلك الهلوسات والتحليلات التي تتناغم مع أهداف ونوايا المحتل الامريكي، وكانت ترفض بل وتسخر من مجرد ذكر اسم المقاومة. أما اليوم وقد بات الثمن الذي يدفعه الاحتلال في العراق غاليا، ولأن الحروب بالنسبة إلى هؤلاء اللصوص مسألة ربح وخسارة، وقد بأن لهم بوضوح رجحان جانب الخسارة، فلم يعد أمامهم سوى الهروب من هذه الورطة التي أوقعت الإدارة الامريكية نفسها فيها بغبائها وغرورها اللذين تتميز بهما. فالمقاومة العراقية الباسلة تقوم يوميا بما لا يقل عن سبعين عملية ضد القوات الأمريكية وعملائها، وأن مجموع الاصابات في صفوف جنود المحتل قد تجاوز أربعين ألفا بين قتيل وجريح، كما أن الخسائر المادية وصلت إلى ما يزيد على ثلاثمائة مليار دولار أمريكي، وبما يعادل أربع مليارات شهريا. أما بالنسبة الى النفط العراقي فإن قوات الاحتلال والحكومة العميلة تواجهان صعوبات كبيرة في عملية الاستحواذ أو السيطرة عليه، وذلك بسبب عمليات المقاومة التي تستهدف هذا القطاع الذي يمثل أحد أهم أهداف غزو العراق. ما نريد أن نقوله: هو أن سياسة الهروب الامريكية البريطانية قد رسمت خطوطها على الأرض، والقرار قد دخل مرحلة التنفيذ، وأن عملية الخداع والتضليل التي يمارسها إعلام الاحتلال والتابعين له حول هذه المسألة ومحاولة خلق التبريرات لها ليست سوى إضافة جديدة تضاف إلى سجل الكذب الذي تفوقت فيه الادارة الامريكية على غيرها من حكومات العالم، وهو سجل حافل تتقاطع فيه الأكاذيب وخداع الشعب الامريكي وبيعه الاوهام، حول المهمة الرسالية لنشر الديمقراطية في العراق، بل هو يحاول أيضا – الإعلام الامريكي – إهانة عقول الشعوب الحرة والرأي العام العالمي، لذلك نجده اليوم يعمد إلى الضجيج الاعلامي للتستر على أكبر فضائحه في العراق، وهي عملية الانتخابات المزورة التي يسعى من خلالها المحتل الامريكي إلى إضفاء الشرعية الزائفة على احتلاله. ونحن هنا سوف لن نتوقف طويلا عند تلك الملايين من الاوراق الانتخابية المزورة التي أدخلتها إيران عبر حدودها إلى العراق، والقبض على بعض المسئولين من الموالين لإيران في تلك المناطق لتورطهم في هذه العملية التي اعترفت بها الإدارة الامريكية رسميا، وكذلك عمليات التزوير التي شهدتها بعض مناطق غرب العراق وشماله أيضا، كما إننا سوف لن نخوض في تفاصيل الاعتداءات والمداهمات والاعتقالات التي نفذها المحتل وعملائه قبل وأثناء الانتخابات المزعومة في بعض مناطق العراق خاصة في غربه من اجل إرهاب وترهيب الناس والتصفيات الجسدية التي تمت على يد ميليشيات غدر الطائفية، فهذه كلها حقائق بات يعرفها القاصي والداني، ولا تحتاج إلى أي مزيد من الشرح أو التعليق. وما نحن بصدده هنا هو الحديث عن تزايد المؤشرات والاعترافات الصادرة من قادة الاحتلال العسكريين منهم والسياسيين، التي تكشف عن وجود قناعة أكيدة لا يرقى إليها الشك لدى الإدارة الامريكية أن احتلالها للعراق قد سقط عمليا، وأن عليها أن تترك العراق في أسرع وقت ممكن، وصارت أحاديثها وتصريحاتها عن الجدول الزمني للانسحاب أمرا عاديا بعد أن كان الحديث عن هذه المسألة قبل عدة أشهر يدخل في باب المحرمات لأنه في نظر بوش يرسل إلى المقاومة رسائل خاطئة ويمثل خطا استراتيجيا وسياسيا فادحا، سوف يحمل معه كوارث عسكرية وسياسية تطال سمعة وهيبة حدوثه، وهي تبدأ بتنفيذ سياسة الهروب، كما تحاول وقف التداعيات الاقليمية والدولية لقرار الهروب بعد أن ضيقت المقاومة الوطنية العراقية الخناق على قوات الاحتلال، ولم تترك أمامها أية وسيلة للتخلص من مأزقها الراهن سوى اتخاذ قرار الهروب ووضعه موضع التنفيذ بأقل الخسائر الممكنة. لذلك وجدنا كيف تغيير خطاب الاحتلال حول أسباب الغزو والاحتلال، وحول مهمات القوات الأمريكية في العراق، فقد أصبحت الأهداف اليوم محصورة فقط في إقامة الديمقراطيةفي هذا البلد، فهؤلاء الغزاة المتحضرين من حملة الرسالات السماوية قد قطعوا الاف الاميال وزجوا بما يزيد على مائة وخمسين ألف جندي وألاف غيرهم من المرتزقة واستخدموا كل ما في ترسانتهم من أسلحة متطورة وفتاكة، وارتكبوا أبشع الجرائم، وزرعوا الموت والدمار في كل زاوية من زوايا العراق، وفعلوا كل هذه الفظاعات فقط من أجل مساعدة العراق والعراقيين على تعلم الديمقراطية؟! وطبعا هذه الإدارة الغبية وإعلامها الكاذب والرخيص يريد منا أن نبتلع هذه الكذبة السمجة أيضا، ويريد منا أن نهين عقولنا ونخون ذاكرتنا، ونتجاهل حقيقة دوافع وأهداف الاحتلال التي حركت العقول الاجرامية في البيت الابيض وتل ابيب وهي تخطط لغزو العراق. وفي مقدمة تلك الاهداف نفط العراق وتأمين حماية الكيان الصهيوني عن طريق إخراج العراق من معادلة الصراع العربي الصهيوني، نظرا لما يمثله هذا البلد من دور محوري وأساسي في هذا الصراع، بما كان يمتلكه من قوة عسكرية وسياسية واقتصادية قد خبرها وعرفها الكيان الصهيوني الغاصب في كل المواجهات والمعارك التي خاضها العرب معه. لذا فإن كل الصخب الإعلامي حول ما يسمى بالانتخابات في العراق، وكذلك حول الانتخابات والاستفتاء الذي سبقها كل ذلك لا يخرج عن كونه لعبة مكشوفة لم تعد تنطلي على احد لأن العالم بات يدرك ان هذه الانتخابات العاجلة جدا والمزورة جدا التي حرص المحتل على اجرائها في موعدهاالمقدس هي مجرد غطاء شكلي يمهد الأرضية للهروب الأمريكي بما يحفظ بها بعض ماء الوجه والإدارة وهي تحاول تقليل خسائرها البشرية والمادية سوف تصر أيضاً على الاحتفاظ ببعض المكاسب العسكرية والاقتصادية من الاحتلال بعد الانسحاب، خاصة ما يتعلق منها بتوقيع اتفاقيات تحصل بموجبها على قواعد عسكرية دائمة وحقوق نهب نفط العراق أطول فترة ممكنة. لذلك نرى كيف تستميت الإدارة الأمريكية في الوقت الراهن على ترسيخ فكرة ما تسميهخطة الانتصار بنشر الديمقراطية في العراق مستخدمة كل وسائل الدعاية والاعلام على الصعيد الداخلي الأمريكي والخارجي الدولي، واطلاق الحجج والتبريرات الواهية التي تمهد للهروب من قبيل انتهاء مهمة وواجب الولايات المتحدة الأمريكية في العراق بعد اقامة الديمقراطية وايجاد حكومة (منتخبة) تكون قد وقعت بذلك الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية التي يسعى إليها المحتل، وقد قبلت – الحكومة – كل عوامل تقسيم العراق بعد الانسحاب الأمريكي على يد عملاء ايران في الجنوب وعملاء الكيان الصهيوني في الشمال، وهذا ما يفسر تمسك واصرار هذه الاطراف بالفيدرالية التقسيمية، فهؤلاء هم دعاة الخارطة المذهبية، وهم الساعون لتحديد مناطق نفوذهم السياسي والاقتصادي في العراق. إذاً هذه الانتخابات المزورةيريد لها المحتل ان تقدم ورقة قانونيةوشرعية للانفصال تحت ذريعة انتخاب الشعب لهؤلاء الذي سيقرون مصير العراق تنفيذا للدستور الصهيوني الايراني الانفصالي الذي جرى فرضه على الشعب العراقي، كما ان هذه الانتخابات سوف توفر للامريكان فرصة خداع أو اقناع بعض الاوساط العالمية أنها تملك حق تطبيق الاتفاقيات لانها ملزمة لأي حكومة عراقية قادمة ما دامت قد جرى توقيعها من قبل حكومة منتخبةوالمحتل الامريكي يذهب هنا ببصره وتفكيره إلى مرحلة ما بعد الهروبوقدوم حكومة تحرير وطنية، ويريد ان يضعها أما أمر واقع وامام وقائع على الأرض تكون بمثابة عقبات في وجه أية حكومة وطنية قادمة. طبعا هذه هي حسابات الاحتلال في مؤامرة الانتخابات المزورة، ولكن للمقاومة الوطنية العراقية حساباتها أيضاً، فهي كما نجحت في الحاق الهزيمة بأكبر واقوى دولة في التاريخ فهي – المقاومة – قادرة أيضاً بخططها وببرنامجها السياسي والاستراتيجي على اسقاط مشاريع المحتل وترتيباته كافة ان المقاومة تمتلك من القوة ما يمكنها في معالجة كل الآثار الخطيرة المترتبة على الانتخابات، وفي المقدمة منها منع تقسيم العراق، وتحريم وجود قواعد عسكرية على أراضيه، وابقاء ثروات العراق للعراقيين وليس للاحتلال وشركائه، كما ان العراق وهو معزز بالنصر سوف يتمكن سريعا من إعادة تشكيل حياته من جديد، ليعود مرة أخرى إلى أخذ دوره في الصراع العربي الصهيوني، وبذلك تكون المقاومة العراقية البطلة قد اسقطت كل أهداف الاحتلال الشريرة، وهو ما سوف يسهم في تصحيح الوضع العربي، وإكساء القضية الفلسطينية ثوبها القومي، وسيكون على الاقطار العربية رفع أو دفع ممارساتها ومواقفها تجاه قضية العراق إلى مستوى المسئولية الكبرى المطلوبة منها، فما تحققه المقاومة العراقية الباسلة على الأرض من انجازات تتيح للاقطار العربية فرصا جديدة لاحداث تغيير جذري في مواقفها، ليس تجاه العراق فقط بل تجاه الأمن القومي للأمة العربية، الذي صار اليوم مخترقا بأشكال متعددة سواء عن طريق الاتفاقيات أو التسهيلات أو القواعد العسكرية، بالإضافة إلى تفاقم الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العديد من الاقطار العربية، ومحاولات تفتيتها باشعال الحروب الطائفية والعرقية، وخلو الساحة امام الكيان الصهيوني لمواصلة تحديه وجرائمه، وبروز شبح التهديد النووي الصهيوني القائم والمشروع الايراني القادم ومما يجعل الاقطار العربية محاصرة من كل جانب، ونحن هنا غير معنيين بالمصلحة الوطنية لإيران، ومن حق هذه الأخيرة أن تفكر في حماية نفسها وليس من حق أحد منعها في التفكير أو العمل وفق مصالحها ولكن من حقنا أن نشعر بالقلق عندما تتعارض أو تهدد تلك المصالح الأمن الوطني والقومي في الدول العربية، وليس لهذا القلق أي علاقة بالهوس الامريكي الاوروبي والصهيوني تجاه مشروع إيران النووي، فهذه القضية لوحدها تحتاج وقفة مطولة مع التأمل والتفكير كي نستطيع سبر غور حقيقة نوايا وأسباب التصعيد الحاصل بين إيران والولايات المتحدة الامريكية حول هذا الملف وتوقيتاته، وعلاقة كل ذلك بما يجري في العراق ومن جانب آخر نرى إصرار امريكا في سياساتها وتقديم خدماتها بما يخدم ويعزز النفوذ الايراني في هذا البلد، وحرصا على تأمين بعض المناطق والمدن عبر هجماتها العسكرية المتكررة لتقديمها هدية لإيران واتباعها قبل الانسحاب الامريكي من هناك؟ وسوف يكون على الاقطار العربية أن تكفر عن مواقفها السابقة وأخطائها في العراق بعد أن قبلت أو سكتت إو تواطأت مع احتلاله، وسمحت بسياساتها الخائبة والمضطربة تدمير قوة العراق وتشريد شعبه، وشرعت لأول مرة بعودة الاستعمار إلى عمق الوضع الجغرافي والسياسي للحالة العربية الشاملة. وجعلت من الولايات المتحدة الامريكية اللاعب الوحيد داخل خطوط الأمن القومي وتفاصيله اليومية بعد أن نشرت جيوشها وقواعدها في معظم الأقطار العربية، ولم يعد هناك سوى جبهة التي تتكون من سوريا ولبنان، وهو ما تتكفل به الإدارة الامريكية وحلفاؤها حاليا في ضرب هذه الجبهة عبر استهداف سوريا والتأمر عليها وتفجير الاوضاع بين سوريا ولبنان. وهنا نقول: إن المقاومة العراقية تقدم حاليا للوضع العربي فرصة نادرة لإعادة قلب موازين وقواعد الصراع التي اختلت لصالح أعداء الامة بخروج مصر والعراق، واعادة ترميم جدار الامن القومي والسماح بعودة الحد الأدنى من التضامن ليس بين الحكومات والدول فقط بل بين الشعب العربي الواحد، الذي يدرك بفطرته وعفويته إن أي استهداف او ضرب أي قطر عربي بصورة منفردة سوف يجلب كوارث تدمر الامن القومي برمته، كما حصل في العراق ومصر وفلسطين، وكما يخطط الآن ليحصل في سوريا ولبنان وغيرها من الاقطار العربية. مطلوب فقط من الاقطار العربية حكومات وشعوب وقوى سياسية أن تستوعب دروس المحنة العراقية، وأن تتأمل صورة الواقع الذي خلقته المقاومة بتضحياتها وانتصاراتها. فقد فتحت هذه المقاومة الطريق لتبقى راية الأمة العربية خفاقة، وسيكون من واجب الاقطار العربية التحرك في هذه اللحظة التاريخية بما يمليه التاريخ والمسئولية عليها، ولتكن فرصة انتصار المقاومة العراقية الباسلة بداية للنهوض القومي، وبداية كتابة التاريخ الجديد للأمة.