اسماعيل ابو البندوره
وعادت الاستراتيجيات الاستعمارية لتكييف وتوطين خططها مع ماحدث فجأة في الوطن العربي في العامين الأخيرين، واصطلحوا على تسميته بالربيع العربي، وهاهي القوى الاستعمارية بكافة عناوينها تدخل شريكا رئيسا ومقررا في الحاضر والمستقبل العربي، لابل أنها اصبحت ترسم هذا المستقبل بيدها وبقرار منها، بعد أن استولدت الادوات والبيئة السياسية الميدانية المناسبة لذلك، داخل انتفاضة عربية مفاجئة طال انتظارها.
وتجدر الاشارة الى أن تقسيم الوطن العربي الى مقاطعات، ومحميات، وكانتونات، وتحويل ابناء الامة الى ملل ونحل وطوائف متصارعة ومتقاتلة، كان ولايزال نقطة بؤرية في هذه الاستراتيجيات، لكي تقوم بتفكيك كيان هذه المنطقة، وتغيير ماهيتها التاريخية والجغرافية والديموغرافية، وتسييد الكيان الصهيوني عليها. ولذلك لاحظنا أن في خطط التكييف والتفكيك الاستعماري الجديد سياسات ومخططات ونظرات متنوعة، ومتباينة، ومصاغة لكل قطر عربي على قياساته لكي تصب في النهاية في صميم هذه الاستراتيجيات وتحقق اغراضها القريبة والبعيدة (فهناك أقطار عربية تترك في حل سبيلها، حتى وان كانت غير ديموقراطية وقروسطية حتى، وسجلها الانساني اسود وملطخ بالوحشية والبشاعة، ويغض النظر عما يجري فيها حتى لو كان جرائما ضد الانسانية، ولاتلاحق أنظمتها بأية ملاحظة أو اشارة، وهنالك أقطار تهاجم بالقوة المسلحة، والاغارات الوحشية المبرمجة والتدمير الشامل، وأقطار اخرى يتم اخضاعها لتسويات وتركيبات مدارة ومسيطر عليها من قبل هذه الاستراتيجيات، كما أن هنالك أقطارا يراد تركها للعنف والحروب الأهلية والطائفية والتفتيت، نظرا لمكانتها الاستراتيجية المحرجة للخطط الاستعمارية والكيان الصهيوني، ووجودها داخل تقاطعات مصلحية تنافسية واقليمية واستراتيجية معينة.
انها دورة جديدة من دورات هذه الاستراتيجيات الاستعمارية وتكييفها وتبيئتها في مجالنا السياسي القومي بغية سرقة نهضته وثوراته وتاريخه، ويراد من خلالها اعادة انتاج وقائع عالمية واقليمية تناسب مصالحها ومطامحها ومطامعها، واجهاض أي نهضة أو ثورة أو تطلع عربي الى الحرية والاستقلال والتغيير والتقدم، والحؤول دون انشاء حالة سياسية عقلانية وحداثية في الوطن العربي، وهي تجليات استعمارية، كما نلاحظ قد تختلف نوعا وشكلا وأداة وفقا للمناخات السائدة والمتاحة، ولكنها تحقق نفس الاغراض الاستعمارية الاغتصابية والافنائية التقليدية التي بدأت منذ القدم.
والمصيبة الكبرى في هذه الوقائع العربية الجديدة، أن انظمة ومعارضات مختلفة ومتباينة من قطر لآخر، قد ساعدت على قبول وتكريس وتحقيق هذه الاستراتيجيات الاستعمارية بصورتيها التقليدية والمستحدثة، من خلال اصرار بعض الأنظمة على قهر شعوبها واذلالها، وعدم السماح لها بتنسم هواء الحرية والكرامة، ورفضها الكامل لفتح حوار مع شعوبها حول قضايا الوجود والمستقبل في اطار من المصارحة والمكاشفة والعقلانية، وتفهم حقائق العصر ومستجداته، و تدارك موجات المطالبة بالتغيير التي تطرأ من حين لآخر والاستجابة لها، وأنشأ ذلك على الطرف الآخر معارضات هامشية وعدمية عادت "من سباتها وامتثاليتها، ومثالياتها السابقة، ولهاثها على الهوامش التي تقدمها الانظمة"، ووجدت نفسها وفرصتها في هذا المناخ الملبد والمضطرب، لكي تظهر على السطح "بفعل فاعل من خارج مجالها واشتغالها"، وتطرح أنماطا من التصورات والخطط والمطالبات التي تصب في خدمة هذه الاستراتيجيات الاستعمارية الجديدة والمتجددة.
ولذا وجد الانسان العربي نفسة في متاهة وحالة التباس وتردد واحباط متجدد، فبدا كأنه لا ارضا قطع، ولا ظهرا أبقى، وتراجعت اندفاعته وطموحاته الوطنيه، وتبلبل عقله والتبس عليه الامر، فلا هو بالراغب في هذا التدخل والاستدخال الأجنبي الاستعماري الطاريء، ولا بثورات ناقصة وهجينة، ولا هو بالواثق من معارضة تشير كل المؤشرات الى أنها انتقامية وعميلة ومفلسة سياسيا، لاتملك مشاريع واضحة نحو الحاضر والمستقبل، وهي بهذه المثابة في طريقها، الى قبول الفكرة الاستعمارية المستحدثة في التغيير الارغامي القائم على تفتيت الوطن العربي وتمزيقه الى دويلات وكانتونات بلا سيادة أو معنى سياسي، تحت عنوان مسايرة مستجدات التغيير والقبول بأي ممكن أو بديل حتى لو أدى ذلك الى تغيير ماهية الوطن وتقسيمه وتحطيم مستقبله.
ويخطر لنا أن نقول احيانا "حتى لاننزلق أو ننحاز الى نمط احادي من التحليل" أن مايجري في وطننا العربي في المرحلة الراهنة هو مخاض، ومحطة، وسياق تاريخي قد يستمر طويلا ويحمل معه الكثير من المشاكل والاشكاليات، ولكنه سياق قد بدأ شئنا ذلك أم لم نشأ، وهي خطى كتبت على هذه الامة، ومن كتبت عليه مثل هذه الخطى مشاها الى منتهاها!!
ولأننا ممن يؤمنون ايمانا تاريخيا عميقا بهذه الأمة وقدراتها على التجاوز، بعيدا عن التمنيات والرغبات والحتميات، ونؤمن بالجماهير العربية وعمق انتمائها وقدرتها على التغيير وصناعة التاريخ وتصحيح المسارات، فاننا لانطلق (بحديثنا عن الاستراتيجيات الاستعمارية ودورها الاعتراضي) نفير اليأس والتشاؤم، وانما نجدد قناعتنا بأن مرحلة الانحطاط الطويلة التي شهدها الوطن العربي في العقود الاربعة الاخيرة، وعملت قوى خارجية وداخلية على تعميقها وادامتها، قد خلقت تشوها في طريقة القراءة والتعامل مع المعطيات والمستجدات والمتغيرات، وأنتجت وقائع عربية نكوصية في الممارسة السياسية، وفراغات في العقل الجمعي، وهي التي اصبحت تقودنا الآن نحو هذا النمط من الاختلاط والالتباس والانسداد، ولكننا وكما ذكرت نواجه عاصفة هوجاء متعددة المخاطر والاحتمالات، وموجة لاعقلانية في طريقة التفكير، والتدبير، وأساليب التغيير، وهي كما نأمل اختلاطات في طريقها الى الانكشاف والاتضاح والتبلور، وتوليد وقائع ومشاهد جديدة، واسئلة استفهامية ملحة حول كيفية ابتداء خط النهضة والتغيير، وصياغة نقاط بداية جديدة لهذا التغيير، وتجاوز هذا الالتباس والاختلاط والتداخل "الذي نراه برؤية تاريخية" عابرا أو سياقا صعبا من سياقات التحول!!