مع مرور الزمن تظهر ضرورات جديدة وتبرز زوايا واعدة لإنجاح الثورات العربية وهي تشق طريقها نحو إحداث تغييرات جذرية كبرى في حياة المجتمعات العربية. وهذا أمر طبيعي، فالثورات هي صيرورة مستمرة متجددة لها بدايات ولكن ليس لها نهاية. بدون ذلك التجدد تدخل الثورات مراحل الركود والأسن، ثم الضعف والتراجع، لنبرز اليوم واحدة من هذه الضرورات التي نعتقد أن على الثورات العربية مواجهتها في المستقبل القريب.
لنتذكر بأن الثورات العربية لم يقم بها حزب معين أو حركة منظمة في كيان واحد. لقد كانت ثورات شعوب طفح الكيل معها ونفد صبرها تجاه الاستبداد والفساد والظلم والهوان الوطني والقومي، فاستجابت لقيادات تميزت بأنها كانت في الأساس من ثوار شباب متطوعين مبدعين غير خائفين من جبروت السلطة ولديهم قدرة هائلة على تقديم التضحيات الجسام.
لكن الثورات الجادة لا يمكن في النهاية إلا أن تسعى لاستلام الحكم أو كحد أدنى أن يكون لها تأثير كبير فاعل في أي نظام حكم يقوم في فترة ما بعد الثورة، حصول ذلك بالنسبة للثورات التي يقوم بها حزب قائد أو حركة منظمة قائدة أمر معروف، وهناك أمثلة كثيرة في تاريخ الثورات، غير أن الأمر يختلف بالنسبة للثورات العربية الكبيرة الناضجة، كما في مصر وتونس وليبيا على سبيل المثال، فالثوار كانوا وما زالوا إلى حد ما، ينتمون إلى أطياف فكرية وايديولوجية ومنهجيات عمل مختلفة دفعها حسها الوطني الرفيع لأن تتعاون وتتكاتف لإحداث وإنجاح ثورات تسعى أولاً لاجتثاث أنظمة حكم استبدادية فاسدة، ثم ثانياً لإقامة بديل أفضل وأصلح، في القريب العاجل سيواجه الثوار العرب ما واجهه الآخرون من قبلهم وهو أنه لإكمال مشوار الثورة التي فجروها عليهم الدخول في عملية استلام الحكم أو التأثير في مساره، ولما كان الثوار العرب في هذا القٌطر أو ذاك غير مندرجين في حركة منظمة واحدة فإن من المنطقي أن جزءاً منهم سينجح في استلام سلطة الحكم، حتى ولو كان من خلال تحالفات مع الآخرين، بينما سيجد البعض الآخرون أنفسهم خارج تلك السلطة، على الأقل مؤقتاً.
إن ذلك سيحدث ولن يكون ضاراً بمسار الثورة، بل على العكس من ذلك، كيف؟ القضية تتعلق بطبيعة الحياة السياسية الديمقراطية، الحكم الديمقراطي لا يحلق في سماء المستويات العليا من الصلاح والشفافية والنزاهة إلا بجناحين: جناح الحكم وجناح المعارضة، وليس من الضروري أو الصحي أن تكون المعارضة في المستقبل مقتصرة على أعداء الثورة أو فلول القوى التي اجتاحتها، الصحي والأفضل أن تنطلق المعارضات في المستقبل من بين صفوف الثوار أنفسهم وأنصارهم، عند ذاك ستكون معارضة وطنية موضوعية قلبها على الوطن وعيونها ليست مركزة على كراسي الحكم فقط، إذن فالحكم الثوري سيحتاج إلى معارضة ثورية لتوازنه، فقط مثل هذه المعارضة ستكون قادرة على تصحيح أخطاء الحكم ولجمه من الشطط ومحاسبته من خلال فكر وبرامج أفضل، ومقاومته إن تطلب الأمر من خلال استنفار وتأييد جموع المواطنين بأشكال ومستويات مختلفة، إن مهمة النظام السياسي العربي في المستقبل لن تقتصر فقط على بناء نظام حكم صالح، وإنما يجب أن تمتد لما لا يقل أهمية عن ذلك: بناء معارضة وطنية سلمية شعبية ثورية فاعلة ملتحمة مع مجتمعاتها وقادرة على إيجاد توازن مطلوب بين سلطة الدولة وبين سلطة المجتمع، وهو ما افتقدته الدولة العربية منذ الاستقلال.
ليست هذه قضية صغيرة ولا جانبية، إنها محورية ومصيرية من أجل استمرار الثورات العربية عبر الزمن الطويل دون تراجع أو انعطاف نحو الطرقات المظلمة، ودون إعطاء فرصة للمعارضات الانتهازية لأن تعود وتلعب أدواراً لتدمير الثورات من داخلها، على ضوء ذلك، مطلوب من الثوار الذين لن ينجحوا في الجولات الأولى من الدخول في أجهزة السلطة، بل وحتى من الدخول في البرلمانات، ألا يعودوا إلى بيوتهم وحياتهم السابقة ويكتفوا بما تحقق، حتى لو تحقق استلام كامل للسلطة من قبل زملاء لهم من الثوار، مطلوب منهم أن يبدعوا وينتظموا في معارضة عربية قادرة على حماية الناس من أي زلل أو انحراف في ممارسة الحكم من جهة، وقادرة أيضاً على الاستجابة لإرادة المواطنين في تبادل دوري لاستلام سلطة الحكم بكفاءة ونزاهة.
جيل الشباب العربي المبهر الذي استجاب لقدره ففجر ثوراته العظيمة، يجب أن يستمر في حمل صليبه على كتفيه عبر المستقبل البعيد، إلى حين إيصال مجتمعاتهم إلى بر الأمان بعيشها الدائم تحت ظلال الحرية والعدالة والمساواة والحكمة في نظام ديمقراطي سياسي- اقتصادي- اجتماعي- أخلاقي مستقر.
شباب الثورة يجب أن يستعدوا الآن ليساهموا في بناء معارضة شريفة فاعلة متماسكة إن لم تحالفهم الظروف في هذه المرحلة من حياة الثورة للوصول إلى سلطة الحكم، المطلوب هو النفس الطويل الطويل
الراية القطرية :الخميس10/11/2011 م