عبد الاله بلقزيز
لا يستتبع تغيير الموقف الأمريكي من الحركات الإسلامية، اليوم، تغييراً في الاستراتيجيات الأمريكية العليا تجاه “المنطقة العربية”، والمصالح الحيوية للولايات المتحدة، ودول الغرب، فيها، فالاستراتيجيات العليا، هذه، ثابتة ولا تتغير بمستجدات طارئة من نوع هذه التي تحصل الآن . وهي ظلت قائمة على الثوابت عينها منذ ورثت الولايات المتحدة نفوذ الإمبراطوريتين الهرمتين (بريطانيا وفرنسا) في الوطن العربي، بعد حرب السويس (1956)، التي فتحت الباب أمام جلاء الاستعمار الفرنسي عن الجزائر، والبريطاني عن عدن، وصولاً إلى “الانسحاب البريطاني من شرق السويس” . وهي ظلت كذلك في حقبة الحرب الباردة، وفي فترة مد الاتحاد السوفييتي نفوذه، في الوطن العربي، عبر بوابات مصر، وسوريا، والعراق، والجزائر، واليمن الجنوبي، وليبيا، بين نهاية الخمسينات وأواسط الثمانينات . ولم تتغير بعد انقلاب الأحوال في مصر السادات، مثلما لم يغيرها زوال الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة . قامت الاستراتيجية الأمريكية العليا على أربعة أركان: حماية مصالحها الحيوية في النفط، وحماية الأمن “القومي” للدولة الصهيونية، وحماية نظام “الاقتصاد الحر” (الرأسمالي) في المنطقة، ومنع أي شكل من أشكال التوحيد القومي فيها . ولقد استتبع كل هدف، من هذه الأهداف الاستراتيجية الأربعة، سياسة كاملة وأدوات مناسبة لتحقيقه، فحماية المصالح الحيوية في النفط عَنَتْ – مثلما اقتضت – سيطرة شركاتها على إنتاجه، وعلى أسعاره، وضمان تدفقه، والسيطرة على طرق الملاحة البحرية، المضائق والخلجان، على نحو استدخل “أمن الطاقة” ضمن منظومة الأمن القومي الأمريكي، ومَد مفاعيل ذلك الأمن وأدواته إلى المناطق التي تقع فيها منابع الطاقة، مخافة أن يتهددها خطر خارجي (سوفييتي، إيراني، صيني) . وحماية “الأمن القومي” الصهيوني اقتضت تزويد دولة الاحتلال بالسلاح والتكنولوجيا لضمان تفوقها، وتمكينها من الغطاء السياسي الدولي الذي يمنع جرائمها من العقاب، والقيام عنها بمهمة تدمير مصادر الخطر (تدمير العراق)، وهندسة اتفاقات صلح وتطبيع معها توفر لوجودها “الشرعية العربية” . كما أن حماية نظام “الاقتصاد الحر” اقتضاها الدخول في حرب اقتصادية مديدة ضد البلدان العربية الآخذة بنظام التخطيط المركزي، والاقتصاد الاشتراكي والمنتج، وسياسات التنمية الوطنية المستقلة، وحجب التمويل الدولي عن مشاريعها الكبرى، وابتزازها تجارياً . . إلخ . أما منع العرب من التوحيد القومي فسعت فيه بكل الوسائل، من الحرب، إلى تشجيع قوى الانفصال، إلى تفجير الخلافات الحدودية، إلى تفجير السلم الأهلي واستثارة النزعات الطائفية والمذهبية، لما يشكله أي مستوى من مستويات التوحيد من خطر على مصالحها، وعلى أمن الدولة الصهيونية .
من النافل القول إن استراتيجية من هذا النوع، وبهذا التنوع في الأهداف الحيوية، تفرض على السياسة الأمريكية توفير حلفاء من داخل المنطقة، من غير “إسرائيل” ، يضمنون لها أمن تلك المصالح والأهداف، وخاصة في ضوء المخاطر التي تتهدد تلك المصالح من الخارج – الإقليمي والدولي – ومن الداخل العربي . وإذا كانت النخب القومية العربية الحاكمة، في غير بلد عربي، منذ خمسينات القرن العشرين، وحدها اصطدمت بالسياسة الأمريكية وأهدافها الاستراتيجية، وتلقت – لذلك السبب – عقاباً مميتاً في أكثر من مناسبة، فإن نخباً أخرى: “ليبرالية” وتقليدية، قدمَتْ – من تجربتها في الحكم – ما يكفي الولايات المتحدة من طمأنة على مصالحها، واستحقت صداقتها وثقتها، على الرغم من أن أمريكا لم تكافئ أدوارها بالحد الأدنى من المقابل السياسي الذي يبرر لها التعاون مع الإدارة الأمريكية، في نظر شعوبها، مثل الضغط على “إسرائيل” للقبول بالقرارات الدولية، والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في حرب العام ،67 على مقتضى تلك القرارات الدولية .
وليس غرضُنا، هنا، استعراض تاريخ العلاقة بين السياسة الأمريكية والنخب السياسية الحاكمة في الوطن العربي، وإنما هدفنا أن نطل على مسألة حصرية، هي ما يمكن للحركات الإسلامية في السلطة أن تقدمه لهذه العلاقة، منظوراً إليها من داخل الاستراتيجية العليا الأمريكية، وما إذا كانت تلك الحركات تستجيب، كلاً أو بعضاً، لمتطلبات تلك الاستراتيجية، أو تلحظ إمكان التعايش معها من دون صدام، ذلك أنه، في ضوء الجواب عن هذا السؤال، يتبين ما إذا كانت فرضية الرغبة الأمريكية في تمكين الإسلاميين من الوصول إلى السلطة فرضية صحيحة أم خاطئة . وليس من سبيل إلى مقاربة المسألة إلا بالوقوف على مواقف التيار الإسلامي الحاكم، اليوم، من الأهداف الاستراتيجية الأمريكية الأربعة المشار إليها .
لا يسع الباحث، في هذا الموضوع، إلا الإقرار بأن هذه المواقف لا تُبدي، اليوم على الأقل، كبير اعتراض على تلك الأهداف، على الأقل عند القوى الإسلامية التي تشارك الآن في إدارة السلطة، في عدد من البلدان العربية، أو تسيطر عليها بأغلبية نيابية، وخاصة أحزاب جماعة “الإخوان المسلمين”، وبيان ذلك أنها لا تمانع في التسليم لأمريكا، وحلفائها الغربيين، بمصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية الواسعة في البلاد العربية، ولم تحمل برامجها الانتخابية، ولا تصريحات قادتها، أي إيحاء – مجرد إيحاء – بأنها تعتزم إعادة النظر في امتيازات عقود النفط للشركات الأمريكية، أو في القواعد العسكرية التي تستبيح الأمن القومي، بل إن تصريحات رموز الإدارة الأمريكية تتواتر مطمئنة دول الغرب بأن مصالحها محفوظة في ظل سلطة الإسلاميين . ثم إن هذه القوى الإسلامية شديدة التمسك بالنظام الرأسمالي، وشديدة العداء للاشتراكية والقائلين بها، وهي تزيد على ذلك بالزعم أن الإسلام يُقر الملكية الخاصة ونظام الاقتصاد “الحر”! وهي تخرج الصراع العربي- الصهيوني من أفقها السياسي، وتسلّم بالاتفاقات المُذلة مع الكيان الصهيوني، وتجهر بذلك على أعلى مستوى ناطق باسمها، وتجدد التزامها ب”السلام” والتسوية . وهي – أخيراً – لا تؤمن بوحدة تقوم على رابطة العروبة، ولا تخفي عداءها للفكرة القومية، وتمسّكها بالكيانات الوطنية الصغرى كيانات نهائية لا ينفيها حديث ايديولوجي عن أمة إسلامية . لا غرابة، إذاً، إن أبدى الأمريكيون – والغربيون – الترحيب الكبير بوصول الإسلاميين إلى السلطة في غير بلد عربي، فهُم – مثلما قال د . سعد الدين إبراهيم – “تلقوا التأكيدات بأن المصالح الأمريكية ستُصَان، وأنها لن تُمَس أبداً”، وأن “أولى هذه المصالح هي معاهدة السلام، وثانيتها تأمين القواعد الأمريكية، والثالثة المرور الآمن في قناة السويس، والرابعة استثمارات الولايات المتحدة في المنطقة”، أي جملة ما شد الولايات المتحدة إلى ديارنا من مصالح وأهداف استراتيجية، وجملة ما سُخرت لتأمينه الأنظمة التي سقطت، والأنظمة التي لم تسقط بعد .