استمرارية أم تغيير، كلمة سر، مطلوب فك طلاسمها لمعرفة المتغيرات التي حدثت في السياسة الأمريكية خلال الخمسة عقود المنصرمة اقتبسها من عنوان تصدر جملة من المقالات التي نشرتها، قبيل وبعيد الانتخابات الأمريكية، التي انتهت بحيازة الرئيس باراك أوباما للمكتب البيضاوي في العاصمة واشنطون.
القول المطلق باستمرارية السياسة الأمريكية، بالعناوين المطروحة سابقا، فيه تجن كبير، ومخالف لنواميس الكون وقوانين التطور، وطبائع الأشياء. والقول المطلق بالتغيير، يحمل قصورا في قراءة آليات السلطة الأمريكية وطرق ممارستها، والقوى الفاعلة في صياغة استراتيجياتها وصناعة قراراتها الكبرى. وهو بالتالي سيكون مثقلا بالأوهام وبالنظرة الرومانطيقية، التي تذهب بعيدا في توقعاتها عن الواقع.
الاستراتيجيات الكبرى، لدى القوى العظمى، لا ترتبط برحيل زعيم أو حزب سياسي، وقدوم آخر، ولكنها تأتي تعبيرا عن انتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى، لتشكل مفصلا حاسما في السياسة الدولية. ورغم أن الانتقال، في دول المؤسسات، يأتي بشكل سلمي وسلس، لكنه في الغالب يأتي استجابة لأزمة مستعصية، يقتضي تجاوزها صياغة بدائل، تمكن صانع القرار من قيادة السفينة، بعيدا عن العواصف والأعاصير، وتسعفه ليخرج من النفق.
إيجاد بدائل للخروج من الأزمات المستعصية، سياسية كانت أم عسكرية أو اقتصادية شيء، وتغيير الاستراتيجيات شيء آخر، مختلف تماما. والخلط بينهما يقود إلى ضبابية، وإلى غياب الرؤية وعدم القدرة على الفهم. إن ذلك يدخل في سياق الفرق بين الاستراتيجية والتكتيك. فالاستراتيجيات الكبرى، لها صفة الثبات النسبي، أما التكتيكات فبرامج عمل مرحلية، تصب في النهاية في خدمة الهدف الأخير. ولذلك يمكن الاستعاضة عنها بسهولة متى ما اقتضت الضرورة ذلك، والإتيان ببرامج وتكتيكات أكثر ديناميكية وفاعلية.
هكذا رأينا النظرة الأوروبية، أثناء هيمنة الاستعمار التقليدي على منطقتنا تقفز على حقائق التاريخ والجغرافيا، وتضعنا في سياق جيوسياسي، يتحدد على ضوء موقعه من مركز العالم، حيث تنتصب ساعة بيج- بينج. وليصبح الشرق أدنى، وأوسطا وأقصى.. دونما أدنى اعتبار لهويات القوم ومعتقداتهم وثقافاتهم. فهم جميعا كتلة صماء واحدة، وجميعهم أمام سياسة الهيمنة والسطو، يمكن وضعهم في خانة واحدة. وإذا كان ثمة نظرة مغايرة في التقييم، فإن ذلك يرتبط بشكل كبير، بحجم ما تختزنه وتعج به تلك المناطق من ثروات ومصادر طبيعية.
وكان قدر هذه المنطقة، منذ ما قبل سايكس- بيكو أن تصبح في التقييم الجيوسياسي، شرق أوسط، قفزا فوق حقائق الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا. ولتختزل هكذا، بأن تكون هويتها خاضعة لعدد الأميال التي تفصلها عن المركز، حيث العراقة الديمقراطية.
وحين انزاح الاستعمار التقليدي، وحل محله اليانكي الأمريكي، بعد الحرب العالمية الثانية، أعيد الحديث عن شرق أوسط كبير، وعن فراغ مطلوب وضع حد له، لمنع الدب القطبي من التسلل إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، والبحر الأبيض، المتوسط أيضا.
وكان الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور، أول من سعى إلى تشكيل قوس مزدوج، موجه بشكل مركب إلى قواعد النجم الأحمر، وتوابعه في أوروبا الشرقية، من جهة، وإلى مراكز الإشعاع في الحواضر العربية، من جهة أخرى.
لم يكن جورج بوش الابن مبتدعا أو مبتكرا، حين طرح شعار الشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلاقة ومخاض الولادة الجديدة. فتلك في الأصل ضمن الاستراتيجيات الكبرى، التي ارتبطت بترتيبات الخارطة الكونية بعد الحرب. ولم تكن تلك الاستراتيجيات مجرد صياغات لفظية، بل كانت برامج عمل معلنة وواضحة، عبر عنها في معاهدات وأحلاف وانقلابات وتدخلات عسكرية، في وضح النهار. والقوائم في هذه المضامير طويلة… حلف المعاهدة المركزية السنتو، حلف بغداد، اسقاط حكومة مصدق، من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، عدوان عام 1956، حروب أهلية في لبنان، عدوان حزيران 1967…
في سياق الاستراتيجيات الكبرى، كما أسلفنا، ليس هناك فرق يستحق الذكر بين سياسات الحزبين الرئيسيين. فكلاهما يعملان في خط واحد، وبشكل متواز أحيانا، وتبادلي في أحيان أخرى. وقد رأينا ذلك واضحا جدا في سياسات الحزبين من الكيان الصهيوني، والموقف من القضية الفلسطينية، ومن حصار العراق أيضا.
كان الرئيس الأمريكي ترومان هو راعي قرار التقسيم، الذي بموجبه منح الصهاينة قرارا أمميا بمشروعية اغتصابهم لفلسطين. واستمر الرؤساء الأمريكيين، منذ ذلك الحين، ديمقراطيون وجمهوريون، في التنافس على تقديم الدعم لإسرائيل، بحيث أصبحت حصتها في الموازنة الفيدرالية الأمريكية، أكبر من حصة بعض الولايات في الداخل الأمريكي. وصار بإمكانها أن تصبح الدولة الأولى الأكثر رعاية والأكثر خروجا على القانون.
في المسألة العراقية، كان الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون هو الذي أعلن قانون "تحرير العراق"، وقام بالاشتراك مع رئيس الوزراء البريطاني، طوني بلير بعملية ثغلب الصحراء، في محاولة لتحقيق هذا القانون. ولكن الهجوم الاستباقي الذي قامت به الحكومة العراقية، على أماكن التحشد في الشمال أفشل المخطط الأمريكي، وأجل تنفيذه إلى حين الهجوم بالطائرات على برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك، ومبنى البنتاجون في العاصمة الأمريكية، في 11 سبتمبر عام 2001، والذي اتهمت القاعدة بتنفيذه.
آنذاك، استثمرت إدارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش حالة الاستعار القومي الذي تسببت فيه حوادث سبتمبر لاستكمال مخطط احتلال العراق، تحت ذريعة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وعلاقة مفترضة للقيادة العراقية بتنظيم القاعدة. وهي ذرائع تكشف لاحقا أنها حبكت لتبرير العدوان على العراق، ومصادرته كيانا وهوية. وهكذا فإن التراجعات التي يقدم عليها هذا الرئيس الأمريكي أو ذاك في واحد أو أكثر من الاستراتيجيات الكبرى، هي في الغالب تراجعات تكتيكية، تخبو لفترة، منتظرة فرصتها، لتندفع من جديد في أتون ظروف مغايرة.
في هذا السياق، تعمل مراكز البحوث ومؤسسات التخطيط، ومؤسسات صنع القرار على تحضير الناس لقبول الاستراتيجيات الكبرى. ويستمر ذلك أحيانا لحقب عدة، كما هو الحال مع المشروع الصهيوني، الذي بدأ تنفيذه العملي بعد وعد بلفور، واستمر يتقدم بشكل مطرد حتى يومنا هذا. وكذلك الحديث عن مشروع الشرق الأوسط، بدأ الإعداد له قبل الحرب العالمية الأولى، وتراجع في مرات عديدة أمام الغليان الوطني، والتغيرات التي شملت العالم الثالث في ما بعد الحرب العالمية الثانية. والعراق، هو الآخر، كان الحديث يجري باستمرار عنه، كمنطقة فسيفسائية ورخوة، وككيان قابل للتفتيت. وقد تصاعد التركيز عليه منذ مطلع السبيعينيات من القرن المنصرم. ولم تتح فرصة للأمريكيين لتنفيذ مشروعهم إلا في عام 2003، عندما احتل العراق. واستمرار ذلك على كل حال، هو أمر مشكوك به، أمام رفض العراقيين لمشروع التفتيت وتمسكهم بهويتهم الوطنية.
السياسة الأمريكية، استمرارية أم تغيير لم نتمكن بعد من حل طلاسمها، فعسى أن تكون لنا وقفة أخرى معها في الحديث القادم بإذن الله تعالى