مع دخول قوات الاحتلال الأمريكي العاصمة العراقية بغداد في التاسع من ابريل سادت الشارع العربي والكثير من الأوساط السياسية والفكرية في عموم ساحة الوطن العربي – صدمة رهيبة وحالة من الإحباط والسخط بسبب الصورة السريعة والدراماتيكية التي دخلت بها قوات الغزو بغداد،وهو ما أطلق عليه في حينها «بالهزيمة العراقية« ولكن هذا الشعور سرعان ما تبدل وتحول الى حالة إعجاب ومساندة بعد ان تفجرت المقاومة الشعبية المسلحة في وجه الاحتلال بعد أيام قلائل من وقوع بغداد في قبضة المحتلين، هذا التحول او التغير السريع في المزاج والموقف الشعبي العربي يعود في جزء من أسبابه الى تلك العقلية التي ظلت رهينة للتفسيرات الخاطئة وحبيسة (المفاهيم التقليدية) التي يتم بموجبها قراءة الصراع بين الأمة العربية وأعدائها، وحصر وسائله في موازين القوى العسكرية التقليدية والاقتصار على النتائج الظاهرة والسريعة لهذا الصراع في صياغة مفاهيم (النصر والهزيمة) كما يقول الأستاذ خليل غريب في كتابه (المقاومة الوطنية العراقية – معركة الحسم ضد الأمركة) ولم يعد خافيا اليوم ان للوجه الأمريكي العسكري العدواني على الأمة وجوها أخرى هي وجوه سياسية وفكرية وثقافية واجتماعية يراد منها تكريس حالة الهزيمة النفسية وزرع الإحباط واليأس في نفوس الجماهير العربية، ولبلوغ هذا الهدف تم تجنيد والاستعانة ببعض أصحاب الأقلام العربية واستخدام اقلامهم المتكسرة كمعاول هدم وسهام مسمومة توجه الى قلب الأمة من خلال الكتابة في بعض «الصحف الصفراء« في هذا القطر او ذاك في تناغم وتنسيق تامين مع الأوساط الإعلامية والمخابراتية الأمريكية، لبث منطق الهزيمة وترويج الخطاب الفكري والسياسي الذي يصب في خدمة أهداف ومشروع الاحتلال الأمريكي في العراق والمنطقة. نحن هنا لا نجادل ولا نعيش اوهاما فيما يتعلق بموازين القوى في الصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها دولة عظمى دون منافس في الظرف الراهن فحسب الموازين العسكرية والمادية البحتة نمثل الطرف الأضعف في هذا الصراع ، والنتائج في المواجهة النظامية محسومة سلفا دون أي شكوك. ولكن مع إقرارنا بهذه الحقيقة، هل يعني ذلك حسم مسألة الصراع والمواجهة بصورة نهائية مع هذا العدو؟ وهل علينا الاعتراف بمشروعية المعتدي المحتل والرضوخ لشروطه؟ وهل كتب علينا نحن العرب طالما لم نمتلك القوة التي توازي قدرات وإمكانات هذه الدولة ان نبقى مهزومين دائما؟ وان نسلم قدراتنا ووجودنا الى حيث تريد وتخطط امريكا ومن ورائها الصهيونية؟ ان التسليم بهذا الواقع كأنه قدر لا فكاك منه يعني انتصار «حق القوة« على «قوة الحق« وإلغاء كل القيم الإنسانية ذات العلاقة بالحق والعدل، كما يعني الاستسلام لمنطق الظلم والاستعباد وعدم مقاومة العدوان والاحتلال، وكذلك التعامل مع هذه المقاومة – التي يفرزها الاحتلال بالضرورة – وفق منطق ورؤية المحتل وباعتبارها قوى «متمردة« او «إرهابية« حسب أوصاف ونعوت المحتل الأمريكي.. وهو ما يعد في الحقيقة استهانة بإرادة الشعوب وحقها في الحرية والاستقلال وحقها في اختيار وبناء النظام السياسي الذي تريده! والمؤسف ان المشهد العراقي اليوم تجرى قراءته من قبل بعض القوى والتيارات والعناصر المحسوبة عليها – وفق هذه النظرة القاصرة والظالمة. وان قراءتها المغلوطة هذه للواقع العراقي هي سمة من سمات خطابها السياسي والفكري المروج للاحتلال و«لمنطق الهزيمة« ويتم هذا الأمر عن سوء نية وسبق إصرار، حتى ان جرى تغليفه بستار «الحكمة« و«العقلانية« وهذه القوى تتجاهل – عن سوء نية ايضا – دور المقاومة الشعبية المسلحة في تعديل موازين القوى المادية والعسكرية في الصراع بين الشعوب التي تتطلع الى الحرية مع المحتل الأجنبي وهي الحقيقة التي اكدتها التجارب والوقائع التاريخية للشعوب التي تعرضت للعدوان والغزو ولا يمكن ان يكون الشعب العراقي استثناء من هذه القاعدة التاريخية. من هنا في الواقع ينبع جوهر خلافنا مع تلك القوى والتيارات بمختلف تلاوينها السياسية والفكرية، في نظرتها وتقييمها للأوضاع في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي، وهو خلاف يعود في الكثير من تفاصيله وأسبابه الى المبادئ والأسس الفكرية التي تحكم تلك النظرة سواء تعلق الأمر بالقوى الدينية الطائفية او بالقوى الشيوعية او تلك التي تسمي نفسها «الليبرالية الجديدة« تيمنا بلقب «المحافظين الجدد«. فبعكس هذه القوى، فان القوى القومية لا تقيس الصراع مع القوى المعادية بموازين «القوى المادية« وحدها، بمعنى انها لا تغفل سلاح «الروح« وسلاح «الإيمان« الذي يحفز نفوس أصحاب القضية العادلة، ويساعدها على تعديل موازين القوى، بل يجعلها أحيانا تتفوق على أسلحة خصمها وعدوها المتطورة، وهذا ليس محض «خيال« او من باب ترويج الأوهام. فالمقاومة العراقية بما تنجزه اليوم على أرض الواقع وما توقعه من خسائر فادحة في صفوف جيش المحتل الأمريكي ومعداته رغم تفوقه من الناحية العسكرية. هو خير دليل على ما نقوله وهو ترجمة أمينة لحقيقة «حوافز الروح« التي تدفع ابطال المقاومة لمواجهة الاحتلال والاستعداد لبذل المزيد من التضحيات في سبيل إنجاز «هدف التحرير« وإفشال مخططات القوات المحتلة في هذا البلد، فهذه المقاومة بانطلاقها واستمرار تصاعدها أفقيا ونوعيا قد جعلت من التفوق الأمريكي العسكري ومن النصر الأمريكي من الناحية العسكرية النظامية الذي حصل في بداية الاحتلال جعلته ناقصا بل وضعت المحتل على طريق الهزيمة، بعد ان ادخلته مأزقا لا سبيل للخروج منه سوى بالاعتراف بالفشل وترك العراق بصورة نهائية، وهذه الرؤية تقوم على ركنين أساسيين: الأول رفض الاحتلال وإفرازاته ورفض التنازل عن الحرية والاستقلال والثاني البدء بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال كعامل من عوامل تعديل موازين القوى، وهذا المنهج المقاوم هو الذي اتبعته المقاومة في فلسطين وكذلك المقاومة في جنوب لبنان، واستطاعت تحرير الجنوب من الاحتلال الصهيوني رغم تفوقه من الناحية العسكرية، ولكن عامل «حوافز الروح« هو الذي أبقى جذوة الصراع مشتعلة وهو الذي في نهاية المطاف رجح كفة المقاومة وأجبر الكيان الصهيوني على الانسحاب بطريقة مذلة كما شهدها كل العالم. ونحن هنا عندما نتحدث عن هذا (الموقف الروحي) وعن «القيم الروحية« ودورها في المواجهة لا نقصد الوقوف بهذه القيم عند حدود الألفاظ والمبادئ النظرية المجردة، لأنها في هذه الحالة تصبح قيما فارغة ومن دون جدوى ما لم ترتبط بالنضال والمقاومة والاستعداد لتقديم التضحيات، ولسنا بحاجة هنا الى التأكيد ان (الدين) و(الإيمان) هما من أهم تعبيرات «حوافز الروح« الذي تدفع بالإنسان الذي يتعرض للعدوان ويسلب منه وطنه وحقه، تدفع به «للجهاد« و«المقاومة« (انظر مفاهيم إسلامية بمنظار قومي معاصر – حسن خليل غريب). بعد هذا الاستطراد دعونا في هذا السياق نطرح التساؤلات التالية: من هي القوى السياسية والفكرية الأكثر قربا وتعبيرا عن «القيم الدينية« الصادقة؟ هل هي القوى المؤيدة للمقاومة ام تلك المساندة والمتعاونة مع المحتل؟ وهل المقاومة القومية (الرافضة للاحتلال) التي تتهم ظلما في مواقفها ومبادئها هي التي تستغل «الإيمان بالدين« لترويج وخدمة سياسة محددة وتبرير مواقف هي أقرب الى خيانة (قيم الدين) وفي المقدمة منها قيمة الجهاد ومقاومة العدوان وصد الأذى والظلم الواقعين على الوطن والناس من قبل عدو لا تردعه أي روادع إنسانية او اخلاقية، وتسقط أمام نازيته ووحشيته كل المحرمات؟ «الذين اخرجوا من ديارهم بغير الحق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز« (سورة الحج/40).
لذلك نقول كفى مخادعة للنفس، وكفى خداع الناس وتزوير الحقائق، وكفى محاولات استغلال المشاعر الدينية للناس لتحقيق أغراض سياسية وطائفية، والدفاع عن مواقف مذلة ومشينة كما هو الموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق والمتواطئين معه، وكذلك هذا الدفاع المستميت عن «الانتخابات الأمريكية« التي يجرى التحضير لها هناك، فقد صرنا نسمع عن مباركة وتأييد «المرجعية« لقائمة معينة تضم «لصوص البنوك« وبعض العملاء والخونة، وبات التصويت لهؤلاء «تكليفا شرعيا« (البعض يقول: انه يتم استغلال اسم المرجعية دون علمها)، ورأينا الفتاوى والملصقات والمنشورات التي تحذر المقاطعين والمناوئين لهذه القائمة بحرمانهم من دخول الجنة وهناك طبعا «الميليشيات« التي سوف تتكفل بمهمة قتل من لا يستجيب «للتكليف الشرعي« فرصاصة واحدة كافية لإنزال غضب الله عليه وإدخاله «نار جهنم« (حسب الناطق باسم علاوي الذي اتهم ميليشيات بدر)، وعلى ذات النهج الذي يقوم على سياسة «الدجل« والتضليل سمعنا ذلك «المفتي« الذي يقول: ان النبي يوسف عليه السلام كان خادما عند فرعون فلماذا إذاً نحن لا نقبل التعامل مع الاحتلال؟ ولا نكون خدما «للفرعون الأمريكي«؟ توقفنا كثيرا عند هذه القوى لأنها كما «يفترض« حسب وجهة نظرها – وفي ضوء الشعارات التي ترفعها – معنية أكثر من غيرها بقضايا «الإيمان« و«الموجبات الشرعية« وهي التي تعرف منزلة القيم الروحية والدور الذي يمكن ان تلعبه في تحقيق العدل والمساواة ومقارعة الظلم والظالمين! كما ان هذه القوى هي التي تتداول في أدبياتها السياسية والتنظيرية وبصورة دائمة ومتكررة مفاهيم ومصطلحات «الجهاد« و«الروح الاستشهادية« وهي كلها أسلحة «معنوية« مهمة في تعديل موازين الصراع ضد الأعداء والغزاة مهما كانت قوتهم المادية والعسكرية. أما القوى السياسية الأخرى من بقايا «الشيوعية« وغيرها. التي هي في أساس عقيدتها «المادية« و«الإلحادية« فهي لا تؤمن أساسا بمبدأ «الروح« ودورها في حفز الهمم في مواجهة التحديات والمخاطر، فقد كشفت لنا الوقائع التاريخية القريبة جدا انه بمجرد ان تغيرت الظروف الدولية و«الأوضاع المادية« وبمجرد اختلال موازين القوى المادية بين الرأسمالية والشيوعية اي بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبين الشرق بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، رأينا كيف انهارت دول «المعسكر الشيوعي« وسقطت الشيوعية سقوطا مدويا كان من نتائجه وتداعياته ارتماء الكثير من تلك الدول والعديد من القوى المحسوبة عليها في أحضان الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وقد تطاير وتناثر بعض شظايا هذه القوى هنا وهناك وهي في حالة من فقدان الوعي والصواب السياسي تحاول ان تحاكي وتتلبس «عباءة« من يفترض انه عدوها والقبول بالعمل تحت مظلته وتنفيذ سياساته وأهدافه، وهكذا رأينا مواقف بعض القواعد المحسوبة على هذه القوى او المتعاطفين معها هي أشد حقدا وخسة من الاحتلال الأمريكي نفسه في نظرتها وتقييمها للمقاومة العراقية والمناصرين لها. ورأينا امتداد هذه المواقف لتطول كل ما له علاقة بقوى العروبة والقومية والتطاول على رموزها والإساءة إليها بصورة وحشية ومسعورة، وهذا ما يؤكد ان هذه المواقف وغيرها من مواقف التبعية والتعاون مع الاحتلال هي مواقف لها جذورها الفكرية والسياسية التي لا تقيم وزنا للمبادئ «والقيم الروحية« في مواجهة المعتدي ودعم الإيمان بدور الدين والعامل الروحي في مسألة الدفاع «الجهاد« عن الأوطان وحماية الأرض والإنسان من العدوان والاحتلال باعتبارها قيما أخلاقية وإنسانية قادرة على ان تحصن صاحب الحق كي لا يتنازل عن حقه مهما كانت وحشية وجبروت عدوه.