يوسف مكي
مثّل انعقاد مؤتمر الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين على امتداد ثلاثة أيام، وما أسفر عنه من نتائج حدثًا مهمًّا على صعيد البحرين . أما الأهمية فتكمن كما نعتقد في ثلاثة أسباب: الأول هو دور الاتحاد في تأطيره الحركة العمالية والدفاع عن مطالبها على امتداد اثني عشر عاماً، وكذلك ما يتمتع به الاتحاد من مكانة عربية ودولية اكتسبها بنشاطه الدؤوب. والسبب الثاني: على رغم صعوبة الظروف المعاكسة التي مر بها الاتحاد خلال السنوات الأخيرة، فإنه استطاع تجاوزها بشكل أو بآخر وأثبت قدرته على تحمل مسئولياته النقابية والوطنية والأخلاقية تجاه من يمثلهم. والسبب الثالث: هو كيفية التعامل مع المستقبل والتغلب على الصعوبات القائمة والمفترضة في القادم من الأيام.
ولكن هذا ليس كل شيء في مسيرة الاتحاد. ولا يتعلق الأمر بعمر الاتحاد 2004 – 2016 فقط، بل أبعد من ذلك. بحيث يتعلق الأمر بتاريخ الحركة العمالية في هذا البلد التي تصل إلى أكثر من سبعة عقود. ما يعني أن تأسيس الاتحاد في 2004 لم يأت من فراغ؛ بل جاء تتويجًا لحركة عمالية مطلبية ابتدأت منذ العام 1938 مرورًا باتحاد العمال في حركة 54 – 56 (اتحاد العمال) وحركة 65 وما أعقبها في العقود التالية من تحركات عمالية ومهنية فيما قبل الاستقلال وما بعده طوال عقد السبعينات، ثم اللجان العمالية واللجنة العامة لعمال البحرين في الثمانينات والتسعينات وما فوق.
لذلك، فإن الإتحاد يحمل في أحشائه تاريخًا من النضال العمالي، قامت به أجيال في إثر أجيال، وما زال الأمر مستمرا. فلا غرابة أن يكون الاتحاد هو خير ممثل لكل هذا التاريخ المشرف. وفي ضوء ذلك فهو يستند إلى خلفية تاريخية ثرية من العمل النقابي، يمكن توظيفها من أجل الحاضر والمستقبل.
وهنا، وللتاريخ، لابد من القول إن الاتحاد ومنذ تأسيسه في 2004 استطاع وبجدارة أن يتغلب على كثير من الصعوبات، ويحقق في الوقت نفسه كثيرًا من المكاسب للحركة العمالية والحقوق المهنية، كما استطاع أن يوسع من قاعدته، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه قادر على تحمل مسئولياته التاريخية في قيادة العمل النقابي، والدفاع عن مصالح عمال البحرين في كل المحافل.
ولأن الاتحاد لم يبدأ من فراغ فقد استفاد من الخبرات النقابية التاريخية المتراكمة، والتي تمثلت في وجود قيادات عمالية نقابية تمتلك الخبرة الكمية والنوعية في شئون العمل والعمال، وهذه لعبت دورا مهما في أن يتبوأ الاتحاد المكان اللائق به، ويمثل في الوقت نفسه مؤسسة محورية من مؤسسات المجتمع المدني في البحرين.
أما فيما يخص الاتحاد نفسه، وعلى رغم العمر القصير نسبيا، فإنه استطاع بفضل قياداته العمالية المخضرمة أن يحقق بعض الإنجازات للعمال، وغير العمال طوال اثني عشر عاما. وخلال هذه المدة الزمنية من عمر الاتحاد الحافلة بالأحداث يمكن القول إن الإتحاد مر بمرحلتين تاريخيتين.
المرحلة الأولى: وتمتد منذ التأسيس حتى 2011 وقد استطاع فيها الاتحاد أن يثبت وجوده وحضوره ويؤسس بنيته التحتية، ويبني أسس علاقات نقابية جديدة وعلنية ويؤطر العمل النقابي والعمالي في عموم البحرين، ويحظى بالاعتراف من قبل المؤسسات العامة والخاصة ويثري السياسات العامة المتعلقة بالعمل والعمال.
وهنا لابد من التذكير بدور أول أمين عام للاتحاد، النقابي المخضرم عبدالغفار عبدالحسين في قيادته للاتحاد وبناء ركائزه التأسيسية، بالاستناد إلى ما يتسم به من قدرات قيادية ومناقب أخلاقية وخبرة واسعة في العمل العام، إذ استطاع بفضل ذلك أن يجعل من الاتحاد مؤسسة راسخة الجذور وقوية.
المرحلة الثانية: وتمتد من 2011 حتى الآن. وهي المرحلة التي مثلت امتحانا صعبا وغير مسبوق للاتحاد، بل مثلت تحديا تاريخيا لدوره واستمراره.
ودون التقليل من المخاطر الجدية التي واجهها ومازال يواجهها الاتحاد فقد استطاع وعلى رغم العقبات والمطبات أن يتجاوز كل ذلك، ويساهم بدور كبير في الحفاظ على كيان الاتحاد نفسه، والحفاظ على مكتسبات الحركة العمالية، والدفاع عن مكتسباتها وما تتعرض له من مخاطر ومهما تكن التضحيات.
ومع المحاولات المعاكسة لمسيرة الاتحاد فقد استطاع أن يؤكد حضوره محليا كما استطاع أن يحافظ على مكانته كممثل للعمال في المحافل العربية والقارية والدولية باعتباره الممثل الأمين على مصالح الحركة العمالية في البحرين.
وهنا لابد من الإشارة إلى القيادة المميزة – خلال هذه الفترة – للسيد سلمان المحفوظ ،الأمين العام الثاني للاتحاد الذي استطاع بقيادته وحنكته أن يقود الاتحاد في أحلك الظروف المعاكسة، إلى بر الأمان، ويتجاوز مرحلة من أخطر ما مرت به الحركة العمالية في تاريخها المديد.
وعلى امتداد ثماني سنوات تمكن المحفوظ من الارتقاء بالاتحاد عبر ثلاثة مسارات. محليًّا وقد أثبت حضوره الفاعل الذي لا يمكن القفز عليه. وعربيًّا من خلال علاقاته المتميزة بالاتحادات العمالية العربية، وتأكيد مكانته في الإقليم. وعالميًّا من خلال تنمية العلاقة الدولية المتميزة مع المنظمات والاتحادات القارية والدولية وإيصال قضية عمال البحرين إلى أهم المنابر العالمية.
لذلك سيتذكر التاريخ السيد سلمان المحفوظ بأنه قاد الاتحاد في مرحلة تاريخية حرجة واستطاع بعقلانيته وصلابته وكاريزميته أن يحمي الاتحاد من الذوبان، ويتجاوز المحنة، ويحافظ على كيان الاتحاد من جهة، ومكتسبات العمال من جهة ثانية، والدفاع عمن تضرروا من ناحية ثالثة.
وأظن أن إعلان المحفوظ المفاجئ وهو في قمة عطائه عدم ترشحه للأمانة العامة إنما يأتي من باب الثقة بأن الاتحاد على رغم الصعوبات يسير في الاتجاه الصحيح، ولإدراكه أيضًا أنه ربما كان يمثل مرحلة، وأن الاتحاد الآن يحتاج إلى قيادة تمثل روح المرحلة المقبلة، هذا فضلا عن ضرورة إرساء مبدأ التداول الديمقراطي في قيادة الاتحاد، وكذلك إدخال دماء جديدة وأيضاً لثقة المحفوظ بأن الاتحاد فيه الكثير من القيادات القادرة على مواصلة المسيرة. وقد وفق المحفوظ في كل ما قام به.
أما المرحلة الثالثة في مسيرة الاتحاد فتبدأ في أعقاب الانتخابات الأخيرة. وقد أثبتت هذه الانتخابات – دون نكران بعض السلبيات هنا أو هناك – أن الاتحاد مازال متماسكاً والممثل الحقيقي لمصالح العمال، وأنه قادر على تحديد الاتجاه السليم لمسيرة الحركة العمالية، والتفاعل الخلاق مع محيطه، وخير مثال هو فوز أربع نساء في الانتخابات الأخيرة، وهذا مكسب مزدوج للعمال وللمرأة في هذا البلد.
إلا أنه وقد تم توزيع المناصب فيبدو أن الاتحاد من خلال القيادة الجديدة، وهي قيادة مخضرمة في غالبيتها، ستأخذ كل الظروف والمتغيرات في الاعتبار في مسيرة الاتحاد القادمة، وستستفيد من السلبيات والايجابيات التي صاحبت الفترة الماضية.
ولكن أيضا فإن الاتحاد يواجه مخاطر وتحديات كثيرة. منها الحفاظ أولا على كيان الاتحاد من المخاطر المرئية وغير المرئية التي تتربص به، وثانيا أهمية توسعة التمثيل وإدخال نقابات مهنية ضمن الاتحاد، وثالثا توسعة الحضور النقابي والثقافي والاجتماعي الأشمل بحيث يمثل نشاط الاتحاد مروحة واسعة من الفعاليات والأنشطة الثقافية والاجتماعية والمهنية ذات الصلة بالمجتمع البحريني ككل وليس فقط العمال.
وأخيرًا أهمية أن يكون له دور مهم في المشاركة في السياسات العامة مع الدولة، تلك السياسات المتعلقة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية والعمالية والمهنية وقضايا المرأة، وأيضا فيما يتعلق بسياسة الضرائب والأسعار، هذا فضلا عن أهمية دوره في قضايا التأمينات وحقوق التقاعد ومصالح الأجيال القادمة.
الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين يدخل مرحلته الثالثة بكثير من الأمل والتطلع نحو مستقبل أفضل للعمال والبحرين، وهذا جيد، لكن الأهم من ذلك أن يكون العمل هو الحاكم للمسيرة مع الأمل، أقصد العمل الممنهج والمخطط والعلمي، وبروح قيادة جماعية قادرة على تحديد الأولويات المرحلية والاستراتيجية، والعمل على خمسة مستويات متداخلة، هي: العمل على مستوى الاتحاد ككيان، بمعنى تطوير آليات عمله وتنشيطه أولا،ً والعمل على مستوى تنمية الحركة العمالية وحصولها على المزيد من المكتسبات ثانياً، وثالثاً العمل على مستوى المجتمع بمختلف تكويناته بحيث يكون للاتحاد حضور لافت، ورابعًا العمل على التغلب على محاولات شرذمة الحركة العمالية وتشطيرها، وأخيرًا العمل على مستوى البحرين كوطن يحتضن الجميع ويعمل فيه الجميع ويجب أن يستفيد الجميع من خيراته. فالاتحاد هو بحصر المعنى الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين. فهو من البحرين وللبحرين.