(1)
في أبجديات العمل السياسي، من الجائز أن تلجأ السلطات الحاكمة وبعض القوى أو التنظيمات السياسية في ظروف معينة إلى استدعاء بعض "المصطلحات" و"المفاهيم" أو "الشعارات السياسية" يتم تسليط الضوء عليها إعلاميا بغرض توجيه الرأي العام أو إعادة صياغة وعيه وتفكيره تجاه قضية أو حدث معين، وإذا لم تفلح هذه الشعارات في أداء الغرض – لسبب من الأسباب – كأن تكون هذه "المفاهيم" أو "الشعارات" المتداولة سياسيا واجتماعيا قاصرة عن توصيل الرسالة المطلوبة، عندها قد تقوم تلك السلطات أو القوى السياسية "بخلق" أو "اختراع" مفاهيم جديدة، لتنزل بها مرة أخرى إلى "البازار السياسي" لتضاف إلى ما هو موجود من "مفاهيم" و"مصطلحات" تعج بها السوق السياسية والتي يراد عن طريقها اختراق عقول الناس، والاستحواذ على عواطفهم ومن دون التوقف عند الجانب المتعلق "بالمشروعية" أو "الأخلاقية" في هذه المسألة، فإنه من الجائز والمقبول أن "تتحمل" أو "تهضم" السياسة مثل هذا السلوك طالما هو يتم في سياق "اللعبة السياسية" وما يتصل بها من قواعد وأصول.
ومع الإقرار بهذا الأمر، فإن الكل يدرك، أن مجرد إطلاق مثل هذه "المفاهيم" وحصول بعض الرواج أو الاستجابة لها من قبل البعض، لا يعني أنها قد اكتسبت صفة "الصدقية" أو أنها صارت "حقيقة" فوق مستوى النقاش، الذي يحصل أنه عندما يجري تداول مثل تلك "المفاهيم" تحت ستار "براق" فإن لمعانه قد يأخذ بأبصار بعض المواطنين البسطاء، الذين لا دراية لهم أو اهتمام بالأمور السياسية، ولا بخفاياها وألاعيبها.
من هنا فإن تلك القوى أو المنظمات السياسية عندما تلجأ إلى استخدام هذه الأساليب، أو تطلق بعض المقولات، فأنها تعرف حتماً أن ما تقوم به مجرد "فرقعات" إعلامية، يقصد بها في ظروف محددة، مخاطبة أو تحريك بعض "العواطف" و"الغرائز" لذلك هي (القوى السياسية) على استعداد للتراجع وسحب تلك الشعارات أو المفاهيم من التداول واستبدالها بأخرى وفق مقضيات الحالة السياسية إذا ما تم التأكد من عدم ملاءمة المفاهيم المطروحة للظروف والمستجدات على المشهد السياسي.
يحدث هذا في العادة إذا كانت القوى السياسية تتمتع بقيادات وبكوادر حزبية تجمع بين الدهاء والإتقان السياسيين وهما العنصران اللذان يمكن أن يوفرا المرونة اللازمة والضرورية للعمل السياسي، كما أنهما يمثلان الحصانة الأكيدة لتلك القيادات والكوادر من الوقوع في بعض "الأوهام" أو أن يكونوا أول "ضحايا" تلك "الشعارات" و"المفاهيم" التي أطلقوها لدغدغة عواطف الناس ويكون مثلهم مثل ذلك الذي يطلق "الكذبة" ويصدقها كما يقول المثل الدارج.
ونحن اليوم في البحرين لو تأملنا المشهد السياسي الذي تضفى عليه صور "العملية الانتخابية" والاستعدادات الجارية لها، ولو قمنا برصد الكثير من السلوكيات والطروحات التي تحسب على بعض القوى السياسية والعناصر المحسوبة عليها، لوجدنا الكثير من الأداءات والحالات التي تقارب الصورة الأخيرة التي أشرنا إليها للتو، حيث نلاحظ كيف يتم إطلاق بعض "الشعارات" وصياغة بعض "المصطلحات" التي لا تحمل أية مصداقية، بل هي على العكس مليئة بالإساءات والافتراءات التي يجري توظيفها في حرب نفسية وحملات شعواء تستهدف المنافسين.
(2)
من المفاهيم التي "برزت" على الساحة السياسية البحرينية خلال السنوات الأخيرة وحاولت بعض القوى السياسية ترسيخها بكل الوسائل، المشروعة منها وغير المشروعة، وخاصة مع اشتداد وطيس الحملات الانتخابية في الظروف الراهنة، هو "شعار" أو "مفهوم" "الدائرة المغلقة" ومشتقاته "مثل" "الشارع السني" و"الشارع الشيعي" وكما هو واضح فإن هذه المفاهيم يجري طرحها أو تداولها بوحي وبتأثير من نزعة طائفية وعصبية حزبية لا يمكن إخفاؤها.
والحقيقة أن هذه "المصطلحات" لا علاقة لها بالناس وأن من يروج لها عادة هو من يحاول الوصول على أكتافهم من خلال التضخيم والنفخ في الخصوصيات المذهبية، ومحاولة توظيف ما هو ديني أو مذهبي لصالح حسابات سياسية محضة.
ومفهوم (الدائرة المغلقة) بقدر ما يحمل من استفزاز للمشاعر الوطنية، فأنه يستبطن روحاً انعزالية تغلب الانقسام على الحالة الوطنية الموحدة، بالإضافة إلى أنه يمثل إساءة صارخة إلى أبناء الدائرة نفسها المستهدفة بهذا المصطلح، فالمرشح الذي يدعي أنه يريد تمثيل هذه الدائرة، وأنه يمتلك المؤهلات اللازمة لذلك فكان أحرى به أن يعتمد على قدراته الخاصة وأن يوظف رصيده السياسي والاجتماعي (إن وجد) في هذه المنافسة إما أن يكون كل ما يملكه من عدة وعتاد هو غطاء سياسي من هذه الجمعية وفتوى دينية من تلك المؤسسة بالإضافة إلى بعض الإشاعات المغرضة التي تستهدف النيل من سمعة المنافسين وتسقيطهم، ثم الوقوف فوق كل هذا الركام وإطلاق التصريحات الموهومة والادعاء أن "الدائرة مغلقة وان مفتاحها قد ضاع" فإن هذا التصرف يمثل إهانة وطعنا في أبناء الدائرة نفسها، كما قلنا فهو يقول لهم بصوت واضح وصريح أنه لا قيمة لصوتكم وأنكم لستم أحراراً، في قراركم، وليس لكم أي خيار، وأنكم لا تمتلكون أية إرادة، أي أن الناس في عرف هذا المرشح صاحب مقولة "الدائرة المغلقة" ليسوا أكثر من "قطيع" يجب أن يقاد وهو معصوب العين ومسلوب الإرادة. وهذا في الحقيقة يمثل قمة "الجبروت" وقمة "الدكتاتورية" كما يمثل قمة الاستخفاف بعقول المواطنين وبإرادتهم.
ولا ندري كيف يقرأ أصحاب هذا التصور مدلولات وأبعاد مصطلح "الدائرة المغلقة" ولا نعرف ما هي المعايير أو المعطيات التي تجعل مثل هؤلاء يصرون على استخدام مثل هذه المفاهيم وبالشكل الذي يجعلهم سادرون في أحلامهم وأوهامهم وبالدرجة التي تفقدهم القدرة عن رؤية ما يجري من حولهم، وتجعلهم سجناء لتفكيرهم "الماضوي"، غير مدركين للمستجدات والتطورات من حولهم وغير عابئين لتطلعات الناس ورغبتهم في التغيير وهي الرغبة التي قدموا من أجلها العديد من الشواهد الشاخصة على الأرض.
ففي مجتمع مثل مجتمع البحرين الذي يتميز بالتنوع الديني والمذهبي، ويمتاز بالتعدد السياسي والفكري لا يمكن أن يقبل مثل هذه المقولات غير "الواقعية" و"المتخلفة" لذا فإنه لا مجال لهذا الطرف أو ذاك من القوى المذهبية السياسية أن يدعي أنه يحتكر أو يتحكم في هذه "الدائرة" أو تلك من الدوائر الانتخابية، فإن هذا يدخل في باب ترسيخ الانقسام الطائفي وتمزيق النسيج الاجتماعي، والنظر إليه باعتباره من الأسس التي تحكم وتوجه العملية الانتخابية، بل والعملية السياسية برمتها، من دون أي حساب للوحدة الوطنية القادرة على استيعاب كل التنوعات الدينية والمذهبية والسياسية، من دون إقصاء أو تهميش.
(3)
أما الإصرار على تداول مثل تلك المصطلحات، فإن ذلك يعد من قبيل الوقوف في وجه الإصلاح والتغيير، ويعني أيضاً محاربة للتطور والتقدم تحت ستار الدين والمذهب، وأن من يطلق هذه "الشعارات" لا يتصرف كسياسي وطني باعتباره جزءا من الوطن، بل سيتصرف باعتباره "عنصرا" غير معني بأية ثوابت وطنية، وهذا يمثل في الواقع محنة الوطن الكبرى مع القوى السياسية المذهبية على اختلاف تلاوينها، وعلى النقيض منها القوى الوطنية وكوادرها وكل مرشحيها، فهي في نضالها السياسي وفي تكوينها الفكري، وكذلك في بنيتها التنظيمية، تخاطب وتستوعب كل المواطنين وفق أجندة وطنية واحدة، أفقها وامتدادها ساحة الوطن كله من أقصاه إلى أقصاه، وهي أيضاً على المستوى النظري والعملي تؤمن بالحرية والمساواة والعدالة ضمن خيارات وطنية مبدئية تحفظ وتصون حقوق كل المواطنين من دون امتياز أو تمييز، كما تؤمن بالديمقراطية كمنهاج لإدارة الاختلاف واعتماد التعددية كقاعدة للعمل والحوار كسبيل لإدارة الصراعات السياسية، وأي تحوير أو انحراف عن هذا التوجه يمثل ضرباً للوحدة الوطنية في الصميم.
فليس في عرف القوى الوطنية "مشروعات خاصة" وليس لديها "حواضن خاصة" وبالتالي هي لا تروج لمقولات الدائرة "الخاصة" و"المغلقة" فعوضاً عن أن يكون التنوع المذهبي والتعدد السياسي في البلاد مصدر غنى روحي وثقافي يتحول على يد دعاة المذهبية السياسية إلى كابوس وعامل من عوامل نشر الفوضى والانقسامات بين أبناء الوطن الواحد، ولنا أن نتصور كيف يمكن أن تكون حالة الوطن إذا ما جرى الانسياق وراء مثل تلك الأطروحات "الكارثية" ولنا أن نتصور أيضاً ما هي النتائج المتوقعة عندما تدار العملية السياسية بمثل هذه "العقلية" وبمثل هذا المنطق "الكارثي".
وهل يمكن للناس أن تسلم زمام أمرها أو تضمن مستقبلها مع قوى تتغذى على الأوهام، وتعيش حالة من الاضطراب وفقدان التوازن السياسي أناساً أغلقوا على أنفسهم "الدوائر" والأبواب "وأضاعوا مفاتيحها" وهل من لا يؤتمن على "مفتاح" دائرة انتخابية، يمكن أن يؤتمن على مستقبل وطن بأسره.
إن الإجابات عن كل هذه التساؤلات هي برسم وتصرف المواطن الذي نحترم عقله وخياره ونتطلع إليه في يوم 23 أكتوبر الجاري ليقول كلمة الفصل ويثبت أنه سيد نفسه وسيد قراره، وانه يمارس حريته في التصويت إلى من يستحق بإرادة حرة ونزيهة، من دون أية ضغوط من هذه الجهة أو تلك، وأن يوجه رسالة واضحة وصريحة للتعبير عن رغبته بالتغيير والتخلص من القيود والأسر التي تكبل حريته وتصادر كيانه وتمحو شخصيته، وأن يقول لبعض الحالمين بالصدارة والمجد والسلطة على حسابه كفى.. كفى فقد حان وقت التغيير.